الهيکل الإداري والتنظيمي لترسانة إستانبول العامرة 1515 - 1699 م /

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم التاريخ، کلية الآداب، جامعة حلوان

المستخلص

تعرف العثمانيون على البحر بعد أن استوطنوا شبه جزيرة الأناضول وبعد أن ألحقوا بها بعض الإمارات التي کانت لها سواحل على بحر مرمرة وبحر إيجه وصنعوا أول سفنهم في إمارة ”قره مرسل” عام 1327م في عهد السلطان أورخان غازي الأول (1326 - 1359م)، لما لهذه الإمارة من تاريخ وخبرة قديمة في صناعة السفن(1). وبعد وفاة السلطان أورخان خلفه ابنه مراد الأول (1359 - 1389م) والذي استطاع فتح أدرنه عام 1361م واتخذها عاصمة للدولة العثمانية، وبذلک أصبح الأسطول البحري ضروريا للربط بين شطري السلطنة الممتدة من آسيا الصغرى إلى أوروبا بعد فتح بلغاريا وصربيا عام 1388م(2). بعد ذلک قام السلطان بايزيد الأول (1389 - 1402م) ابن السلطان مراد بتطهير شواطئ بحر إيجه الآسيوية من بقايا الروم، حيث استطاع ضم موانئ إيدن، ومنتشه، وصاروخان ونفذوا من سواحل منتشه إلى البحر المتوسط، ثم حاصر استانبول عام 1399م بأسطول مکون من 60 سفينة حربية، وکاد أن يحقق النصر لولا هجوم تيمورلنک على الدولة العثمانية وانتصاره على السلطان بايزيد في معرکة أنقرة عام 1402م، والتي أسفرت عن وقوع السلطان في الأسر(3). لکن بعد ذلک استطاع السلطان محمد تشلبي (1413 - 1421م) ابن السلطان بايزيد أن يستقل بمدينة طوقات وآماسيا وبدأ في مقاومة التتار حتى استطاع تحرير البلاد منهم، بعدها خاض الأسطول العثماني معرکة جنق قلعة عام 1416م ضد أسطول البندقية وانتصر عليه، وبذلک بدأت البحرية العثمانية تأخذ مکانتها بين الکبار في السيطرة البحرية(4). وفي عام 1421م تولى مراد الثاني السلطنة (1421 - 1451م)، حيث بدأ حکمه بمحاصرة مدينة القسطنطينية عام 1422م وهو الحصار الرابع للعثمانيين لها، إلا أنها امتنعت عليه لحصانتها، لکنه استطاع الاستيلاء على إمارتي منتشه وآيدن عام 1425م، وبذلک استطاع الوصول إلى البحر المتوسط بعد أن خاض الأسطول حروبا حقق فيها انتصارات على بعض القوى الأوروبية في البحر المتوسط والبحر الأسود مثل البنادقة والبرتغاليين رغم مقاومتهم الشديدة للمد العثماني في تلک البحار خاصة البنادقة وانتهى بهم الحال بعقد معاهدة غاليبولي عام 1431م مع الدولة العثمانية والتي اعترفت بمقتضاها بقوة الأسطول العثماني وتفوقه على سائر الأساطيل في البحر المتوسط آنذاک(5). وفي عام 1451م تولى محمد الثاني (الفاتح) السلطنة (1451 - 1481م) والذي استطاع بفضل أسطوله البحري أن يفتح مدينة القسطنطينية التي حوصرت من قبل تسعا وعشرين مرة على مر التاريخ، وذلک في يوم الثلاثاء الموافق 29 مايو عام 1453م(6). وبعد فتح استانبول ازداد نشاط الأسطول العثماني فهاجمت 80 قطعة من الأسطول العثماني جزيرة رودس التابعة لفرسان القديس يوحنا عام 1455م، لکنه فشل في فتحها(7). ثم خاض معرکة أخرى في بلغراد بأسطول مکون من 200 سفينة، لکنه لم يحالفه التوفيق ودمر قسما کبيرا من سفن هذا الأسطول وذلک عام 1456م(8). ثم تابع السلطان الفاتح حملاته البحرية لتأمين مضيق الدردنيل من خطر البنادقة وحقق انتصارات متعددة على أسطولهم بعد فتح جزيرة مديللي عام 1462م واستطاع فتح رودس عام 1480م بعد أن حاصرها لمدة شهرين و12 يوما، ثم تابع السير حتى استولى على الجزر اليونانية مثل: کفالوينا، وزاتيا، وزاکيتوس، وسانت ماورا، ثم عزم على دخول الأراضي الإيطالية لکنه توفي عام ١٤٨١ م. وهکذا استطاع السلطان الفاتح تحويل البحر الأسود إلى بحيرة عثمانية، خاصة بعد أن تم تحطم الإمارة البيزنطية في طرابزون والاستيلاء على خانات القرم وتوابعهم(9). من جهة أخرى أزعج نمو القوة البحرية العثمانية دول أوروبا، ولا سيما بعد أن أنشأ السلطان الفاتح الکثير من السفن التي مکنته کما ذکرنا من فتح جزيرة مديللي عام 1462م. والتي استطاع من خلالها تأمين ممر مضيق الدردنيل وکذلک استمرار حملاته البحرية المتتالية ضد البندقية والتي بلغت 21 حملة حققت في مجملها انتصارات استطاعت من خلالها انتزاع الصدارة والسيطرة البحرية من أسطول البنادقة(10). ومع ذلک ورغم ما حققه السلطان الفاتح من انتصارات فإن التطور الحقيقي للأسطول العثماني بدأ بشکل حقيقي في عهد السلطان بايزيد الثاني (1481 - 1512م)، حيث أنشئت في عهده السفن الحربية الضخمة والتحق بالخدمة في الأسطول بحارة أتراک مشهود لهم بالکفاءة والشهرة مثل کمال ريس وبراق ريس، فأنعش ذلک قوة العثمانيين البحرية وخاضا معارک بحرية کثيرة ضد القوى البحرية الأوروبية خاصة البندقية في لابنتو عام 1488م حققا فيها انتصارا انتهى بتوقيع معاهدة صلح بين البلدين سمح من خلاله بالملاحة في البحر الأسود وأن يکون لها قناصل في الأستانة، وهکذا اکتسبت البحرية العثمانية في زمن السلطان بايزيد شهرة عظيمة أوقعت الرعب والخوف في قلوب الدول البحرية الأوروبية بالبحر المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجه(11). وفي عهد السلطان سليم الأول (1512 - 1520م) شهد الأسطول العثماني اهتماما کبيرا، حيث أمر سليم القبودان جعفر بک أحد قواد البحر بتوسيع دار الصناعة التي بساحل قاسم باشا وأمر بإنشاء عدة سفن ضخمة بين حربية وناقلة للجنود، لتکون قوة الدولة البحرية معادلة لقوة البنادقة والأسبان معا، وهکذا أصبح الأسطول العثماني في زمن السلطان سليم الأول سيد البحر المتوسط من الإسکندرية إلى سواحل الشام إلى استانبول، لکن الزمن لم يمهله ليرى نتاج عمله في تطوير الأسطول العثماني وتوفي عام 1520م(12). وبعد وفاة السلطان سليم استمر السلطان سليمان القانوني (1520 - 1566م) في مشروع والده بتقوية أساطيل البحرين الأسود والمتوسط بعد أن أقلقته أخبار قراصنة جزيرة رودس الذين واصلوا الاعتداءات على السفن العثمانية التجارية ما بين مصر واستانبول، کما اعتدوا على سفن الحجاج وقتلوا عددا منهم عام 1522م. فجهز لهم حملة بحرية تأديبية للاستيلاء على جزيرة رودس مکونة من 300 سفينة حربية و400 سفينة نقل جنود تحت قيادة القبودان بيلان مصطفى باشا، حيث حاصرت رودس عام 1525م لمدة سبعة أشهر متتالية بقيادة السلطان نفسه حتى استسلمت الجزيرة وطلب فلاري آدم رئيس فرسان القديس يوحنا الصلح مع السلطان سليمان مقابل الجلاء عن رودس والرحيل إلى مالطة(13). بعد ذلک شهدت البحرية العثمانية مرحلة جديدة عندما دخل خير الدين برباروس حاکم الجزائر في خدمة العثمانيين، حيث بلغ الأسطول العثماني ذروة قوته، فتحول البحر المتوسط في عهده إلى بحيرة عثمانية واستطاع الأسطول إلى جانب عمليات الفتح أن يساعد الفرنسيين ضد خطر الأسطول الإسباني الذي کان يعد من أکبر أساطيل العالم آنذاک، حيث استطاع تحقيق بعض الانتصارات على الأسطول الإسباني في مواقع متعددة منها انتصاره عليهم في معرکة ”بروزه” عام 1538م في تونس بعد خمس ساعات من القتال، ثم معرکة ”جربة” عام 1558م والتي انتصر فيها الأسطول العثماني بقيادة بياله باشا على الأسطول الإسباني وکان من نتائجها تحرير مدن جربة وصفاقس وطرابلس الغرب من أيدي الأسبان. وبعد هذا التاريخ لم تحرز البحرية العثمانية أية انتصارات مهمة وحتى وفاة السلطان القانوني عام 1566م(14). بعد ذلک تولى السلطان سليم الثاني (1566 - 1574م) الحکم والذي عرف عنه أنه کان ضعيفا بالمقارنة بمن سبقه من سلاطين الدولة العثمانية، مما شجع البنادقة على القيام بأعمال القرصنة ضد السفن التجارية العثمانية، فأخذ يستعد للقيام بحملة تأديبية للقراصنة في عام 1570م، حيث استولى على قبرص في نفس العام، لکنه لقي هزيمة مؤلمة من مالطة وحلفائها في معرکة لابنتو الثانية (إينه بختي) في عام 1571م وقتل قائد الأسطول العثماني علي باشا ومن الجنود 20000 جندي، وغرق 92 سفينة من إجمالي مائتي سفينة، والباقي غنمه العدو وتقاسمته الأساطيل المتحالفة(15). لکن الأسطول العثماني استطاع من جديد النهوض والإبحار مرة أخرى، واستطاع بقيادة دريا علي باشا قبطان الاستيلاء على تونس عام 1574م وبذلک استرد الأسطول العثماني کرامته في البحر المتوسط مرة أخرى(16). وبعد هذه المعرکة استطاع العثمانيون تحرير شمال أفريقيا نهائيا من الخطر الإسباني وبعدها توفي السلطان سليم الثاني عام 1574م بعد أن ثار حول شخصيته الکثير من الجدل، حيث أثنى عليه بعض المؤرخين وذمه البعض الآخر، وأيا کان الخلاف في الرأي فلا تستطيع أن ننکر الدور الجهادي الذي قام به هذا السلطان لإعلاء کلمة الإسلام في الدول التي تعرضت للخطر الغربي الصليبي ولم يتوان لحظة في الدفاع عن مقدرات هذه الدول(17). وتعتبر الفترة ما بعد فترة حکم السلطان سليم الثاني وحتى نهاية القرن السابع عشر، فترة الرکود في تاريخ الأسطول والبحرية العثمانية وبالطبع تخللتها فترات تميزت بالانتعاش والقوة وذلک من خلال محاولات جادة لإحياء المجد البحري للعثمانيين، وبالفعل حقق هذا الأسطول انتصارات مؤثرة في فترات کثيرة خلال تلک الفترة بفضل بعض القابودانات وأمراء البحر الذين کان لهم دورا کبيرا في إنعاش الأسطول مثل سوکولو محمد باشا ودريا کليتش علي باشا والذي کان له دورا في تنظيم حملات بحرية إلى المحيط الهندي لمواجهة الخطر البرتغالي في أعوام 1580م، 1585، 1589م لکنها حملات لم تستطع تحقيق النجاح بشکل کبير لعدم الإعداد لها بالشکل المطلوب(18). وبالنظر إلى الحملات التي تلت تلک الفترات نجد أنها کانت عبارة عن حملات للدفاع عن النفس من جهة أو لحماية طرق التجارة العثمانية من أخطار القراصنة الذين لم يتوانوا لحظة عن مهاجمة سفنهم ونهبها من جهة أخرى، کما کانت حملات أجهدتها الصراعات الدينية قبل کل شيء فالأسطول العثماني أعتبر أسطولا إسلاميا مواجها لأساطيل الغرب الصليبيين في مياه البحر المتوسط والبحر الأسود ومن ثم مرت تلک الفترة بمعارک بحرية لم تکن حاسمة، لکنها أرهقت الأسطول العثماني وکانت سببا في بداية فترة الانحدار والتفکک للبحرية العثمانية بعد ذلک، رغم المحاولات الکثيرة للإبقاء على قوته وهيبته بين أساطيل العالم(19). لکن في الحقيقة ولو نظرنا إلى الوضع العام سوف نجد أن نهضة الأسطول وقوته ارتبطت بالسياسة العامة للدولة وبمقدرات قوة السلاطين فلم يکن الأسطول بمعزل عن التطورات التي شهدتها الدولة العثمانية طوال فترة تاريخها سواء مرحلة القوة والهيبة أو مرحلة الضعف والهوان. على أن تطور البحرية العثمانية وتفوقها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، يکمن في وجود الإمبراطورية البيزنطية المتاخمة شرقا للعثمانيين، فضلا عن وجود مجموعة من القوى البحرية الأخرى کالبنادقة، وقد أدى هذا الاحتکاک المباشر بين الجانبين منذ القرن الرابع عشر الميلادي إلى تطور المقدرة البحرية للعثمانيين. کما ازدادت عنايتهم بالأسطول لدوافع دينية وتجارية خاصة مع غزو العثمانيين للمشرق الإسلامي، حيث کان هناک مخاوف على الأماکن المقدسة في مکة المکرمة والمدينة المنورة في أن تتعرض لغارات البرتغاليين(20). کما أن وجود البرتغاليين في طريق التجارة بالمحيط الهندي کان يزعج المصالح التجارية للعثمانيين، لذا حرصوا على أن يکون البحر الأحمر بحيرة إسلامية خالصة وأن تکون لهم السيطرة الکاملة على المحيط الهندي خاصة طرق تجارة التوابل والحج، ولذا أسسوا العديد من القواعد البحرية في تلک المناطق وأنشأوا ترسانات لصناعة السفن الحربية(21).

الكلمات الرئيسية