البناء السردي في الخطاب الشعري عند ( تيسير سبول )

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم اللغة العربية ، کلية الآداب، جامعة الطائف.

المستخلص

 تسعى هذه الدراسة إلى الوقوف على البناء السردي في الخطاب الشعري عند تيسير سبول ، وإبراز هذا البناء في شعره ، والذي حقق قدراً عالياً من العمق الفني ، وأسهم في خدمة التجربة الشعرية ، کما تسعى إلى إلقاء الضوء على الشاعر في النص الشعري ، الذي أصبح سارداً وشاعراً في الوقت نفسه يستغل المکان والزمان والشخوص ؛ للتعبير عن آرائه ومواقفه ، وعن واقعه الذي يعيشه، فکان للمکان الحضور البارز في شعره ، کما حاول الشاعر من خلال الزمن أن يعود إلى الماضي ، في أغلب قصائده ، ليسترجع زمن الانتصارات العربية ، ويقابلها بزمن الهزائم الحاضر. وبناء على ما تقدم تحاول هذه الدراسة إضاءة البناء السردي في شعره ، وکشف ملامح التأثير الذي أغنى النصوص الشعرية ، وما أضافه هذا البناء من مزايا جمالية وفنية .

الكلمات الرئيسية


البناء السردی فی الخطاب الشعری عند ( تیسیر سبول )

 

د/أسماء مساعد  إبراهیم العمری 

 

الأستاذ المشارک - قسم اللغة العربیة ، کلیة الآداب، جامعة الطائف

 

الملخص

         تسعى هذه الدراسة إلى الوقوف على البناء السردی فی الخطاب الشعری عند تیسیر سبول ، وإبراز هذا البناء فی شعره ، والذی حقق قدراً عالیاً من العمق الفنی ، وأسهم فی خدمة التجربة الشعریة ، کما تسعى إلى إلقاء الضوء على الشاعر فی النص الشعری ، الذی أصبح سارداً وشاعراً فی الوقت نفسه یستغل المکان والزمان والشخوص ؛ للتعبیر عن آرائه ومواقفه ، وعن واقعه الذی یعیشه، فکان للمکان الحضور البارز فی شعره ، کما حاول الشاعر من خلال الزمن أن یعود إلى الماضی ، فی أغلب قصائده ، لیسترجع زمن الانتصارات العربیة ، ویقابلها بزمن الهزائم الحاضر. وبناء على ما تقدم تحاول هذه الدراسة إضاءة البناء السردی فی شعره ، وکشف ملامح التأثیر الذی أغنى النصوص الشعریة ، وما أضافه هذا البناء من مزایا جمالیة وفنیة .

 

 

 

 

 

 

Abstract

The present study  is an attempt to examine the narrative structure in the poetic discourse for ‘Taiseer Isbool’ as well as to highlight this structure in his poetry, which achieved a great deal of artistic depth  and participated in developing the poetic experience.

 

The study also attempts to highlight the poet himself in the poetic text, who became such a narrator and a poet at the same time, who already uses place, time and persons to express his opinions and  attitudes as well as his current reality. Therefore, the ‘place’ has its clear presence in his poetry. The poet also tried to look back for the past through time in most of his poems, in order to evoke the time of Arabian victories in contrast to the defeats of current time.

 

Accordingly, the study attempts to highlight the narrative structure in his poetry and to detect the impact factors which enriched the poetic texts as well as the aesthetic and artistic advantages added by such structure.

 

 

 

البناء السردی فی الخطاب الشعری عند ( تیسیر سبول )

تمهیــــد

تعریف السرد:

        السرد لغة هو تقدمة شیء إلى شیء تأتی به متسقاً بعضه فی إثر بعض (1) ، والسرد ضمک الشیء بعضه إلى بعض ، نحو انتظم وما أشبهه ، ومنه قولهم : سرد الدِّرع ، أی ضم حدید بعضها إلى بعض.

       والسرد : الثقب والمسرودة الدرع المثقوبة ، والسرد اسم جامع للدروع وسائر الحلق  وفلان یسرد الحدیث سرداً ، إذا کان جید السـیاق له ، وسردت الصوم أی تابعته ، وقیل لأعرابی : أتعرف الأشهر الحرم ؟ فقال : نعم ، ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، فالسرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، والفرد رجب ، والسرندی الشدید ، والأنثى سرنداة . (2)

   و مصطلح السرد  أو السردیة من المصطلحات التی دخلت دائرة التوظیف النقدی تحت تأثیر البنیویة ، هدفه توفیر الوصف المنهجی للخصائص التفاضلیة للنصوص السردیة ، لیشمل الجوانب النظریة والتطبیقیة فی دراسة منهجیة للسرد وبنیته.

       بدأ علم السرد بالشکلانیین الروس ، وبالتحدید ( فلادیمیر برب) ( 1928- 1968) فی عمله الموسوم ( مورفولوجیا الخرافة ) الذی یحلل فیه تراکیب القصص إلى أجـزاء ووظائف  و( الوظیفة ) عنده هی( عمل ) الشخصیة ، وقد حصر الوظائف فی 31 وظیفة فی جمیع القصص.(3)

   وصاغ ( تودوروف) مصطلح علم السرد لأول مرة عام 1969م فی ( قواعد الدیکامیرون ) وعرفه بـ ( علم القصة ) ، وأنتجت الأیام المشرقة للنظریة البنیویة فی الأدب بعض الأعمال الرائعة فی محاولة تحویل علم السرد إلى مشروع علمی ، نذکر منها على سبیل المثال لا الحصر نحو القصة لتودوروف وبارت ، وغریماس ، وعلم السرد المرتکز على الخطاب لجینیت جیرار وستانزل.

    وأصبح السرد فیما بعد مادة لکثیر من الأطروحات ،  خارج حقل الدراسات الأدبیة ؛ إذ بدأ العلماء ینظرون لوظیفة السرد فی کتابة التاریخ والدین والصحافة والممارسة القانونیة ، والتربیة والسیاسة ، لدرجة أن معظم المنشورات عن موضوع السرد فی هذه الأیام تبدأ بعبارة السرد مثل ( السرد فی کل مکان ) ، أو ( القصص فی کل مکان حولنا ) .

وبالنظر إلى حقیقة أن معظمها یتفق على أن الواقع کما نعرفه لیس مدرک بالحواس ، بل إنه بناء ذاتی ، یبدو أن السرد فی کل مکان حولنا ؛ لأن بناء التمثیلات السردیة هو أحد الوسائل التی تعطی بها شکلاً ومعنى للواقع الذی ندرکه، السرد هو بعبارة أخرى طریقة أساسیة للتفکیر أو أداة معرفة . (4)

حدود السرد وحدود الشعر:

      إن لغة السرد هی لغة التواصل ونقل الفکر ووسیلة لتصویر الواقع والتعبیر عنه ، وهی بذلک تجد تبریرها خارجها ، أما اللغة الشعریة فتجد تبریرها فی ذاتها ، فلم تعد وسیلة أو أداة تواصل ، وإنما هی مستقلة أو ذاتیة الغائیة ، ولعل هذا التصویر هو جوهر تفکیر الشکلانیین الروس فی إطار معالجتهم للأدب ولغة الشعر ، وکان مؤلفا نظریة الأدب قد صاغا تعریفاً لوظیفة الشعر بقولهما: " إن للشعر عدة وظائف ممکنة ، إن وظیفته الأولى والرئیسة هی أن یکون أمیناً لطبیعته." (5)

   وعلى هذا النحو فالحدود تکاد تبدو فاصلة بین المحکی والقصیدة فی إطارها النظری ، ولکن على المستوى تأمل النصوص الشعریة التی تمزج داخل کونها مکونات وسمات تنتمی إلى أنواع وأنماط ومصادر ومذاهب متعددة ، یبدو الأمر مخالفاً ، إذ تصبح القصیدة ملتقى لغتین إحداهما سردیة ، وأخرى شعریة.

     لقــــد أفادت القصیدة الحدیثة من الفنون العدیدة ، وقد أضحت معاصرة ، بکل ما تحمل هذه الکلمة من معنى ، وهی ترتبط ارتباطاً وثیقاً بالروایة والقصة ، ویمثل هذا لارتباط استخدام القصیدة للمقومات ، وللآلیات الموجودة أصلـاً بشکل طبیعی فی الروایة والقصــة  " فتشتبک الروایة من جهة أخرى مع القصیدة ، ومع سواها من فنون القول ، فی أن کلاً منها مجرد کینونة لغویة ، وهذا ما خاضت فیه بحوث مختلفة فی إطار الشعر والشعریة ، ففی هذا السیاق تذکر ( کونراد ) أن الشعر" هو العالم وقد تحول إلى اللغة " (6) ، وما ینطبق على القصیدة ینطبق على الروایة ، بهذا الخصوص ، ولکن الروایة تظل تفترق عن القصیدة بنزوعها السردی ، والابتعاد عن الغنائیة ، وعن الإسراف فی التکثیف" (7)

    کما أن الشعر – ولاسیما الشعر العربی الحدیث- قد امتاز ببنائه السردی ، بل إن السرد أصبح میزة هذا الشعر ، ولکن هذا البناء لم یأتِ مقحماً أو متکلفاً ، ولکنه أتى عفویاً ، فأکسب هذا الشعر بعداً جمالیاً ، وعند المقارنة ما بین السرد فی القصة أو الروایة ، وما بین السرد فی الشعر العربی الحدیث ، نجد أنه لا قصة أو روایة تخلو تماماً من تقنیات أو آلیات سردیة ، فیما یأتی

البعد السردی فی الشعر العربی الحدیث بوصفه تقنیة مساعدة  ، تضاف إلى السمات الشعریة المعروفة فی القصیدة ، مثلها مثل الإیقاع والصورة والترمیز والتکثیف والإیماء والغموض والفضاء البصری ، مما یثری النص الشعری ، ویلبسه ثوباً جدیداً.

 

السرد فی شعر تیسیر سبول:

     لقد تضمنت معظم فصائد تیسیر سبول الأشکال السردیة المختلفة ، ولعل سبب هذا النزوع هو اتجاه الشعر العربی الحدیث برمته إلى استخدام هذه التقنیة ، فمجمل الشعراء المعاصرین قد انتهجوا هذا النهج ؛ لکون اللجوء إلى هذا یعزز ویغنی الرؤى والتجربة الشعریة ، کما یمکن الشاعر من التعبیر عن رؤاه بطرق عدیدة ، بعیداً عن الضوابط الشعریة الصارمة ، التی تحد نوعاً ما من التعبیر الذی تحکمه الکلمات والأوزان ، فتتیح الأشکال السردیة المختلفة طرقاً جدیدة للشاعر ؛ لکسر هذه الضوابط ، کما تفتح آفاقاً واسعة لمنظور جدید للشعر العربی المعاصر.

     إن القصیدة الحدیثة لم تعد مقتصرة على صوت واحد ، وهو صوت الشاعر ، وإنما أصبحت تحمل نظاماً قصصیاً یصوغه الشاعر السارد إلى أحداث تحمل أبعاداً دلالیة مختلفة ، تثیر الانفعالات والمشاعر الإنسانیة.

     وتأتی أهمیة السرد فی الشعر الحدیث من خلال إکسابه المزایا السردیة المختلفة ، عندئذٍ یؤدی الشعر وظائف دلالیة وجمالیة ؛ إذ تظهر القصیدة الحدیثة بحلة جدیدة غنیة المضمون ؛ " فبنیة القصیدة الحدیثة التی استعارت بعض حروف هذه البنیة من أشعار العالم وأفکاره ، ومن تطورات الأجناس الأدبیة وتفرعاتها ، ومن خصوصیة التجربة للشاعر والمجتمع وللتراث ، وأصبح بنیة مرکبة ومعقدة ، تتداخل فیها الاستعارة بالمجاز ، والرمز بالواقع ، والفردیة بالاجتماعیة، والواقعیة بالسحر ، والواقع التاریخی  بالمثولوجیا ، والتجربة الشخصیة بالتجربة العالمیة ، فأصبح صوت الشاعر عاماً ، بالرغم من انه محلی الکلام والصورة . " (8)

     إن إفادة الشعر الحدیث من السرد القصصی والروائی قد أضفت علیه سمة الحداثة ، والتحرر من الصیغة التقلیدیة ، کما أنها قد کشفت عن العلاقات الدقیقة بین الإنسان ومحیطه، وأکسبت الکلمة الشعریة أبعاداً دلالیة غنیة. ومن القضایا السردیة فی شعر تیسیر ســـبول التی سنتناولها : الحبکة والمکان السردی والزمن السردی والحوار والشخوص.

 

 

 

المبحث الأول

الحبکـــة

       تعد الحبکة رکیزة أساسیة من رکائز السرد الحدیث ، فهی طریقة ترتیب السارد للأحداث  وتضم الطریقة التی یقدم بها السارد کلاً من الزمان والمکان والشخوص والأحداث بمجمـلها  فهی النسیج المتکامل الذی ینسجه ، ویحبکه السارد بدقة ودرایة ، وفی الشعر العربی الحدیث تحظى الحبکة بوجود واسع ، وذلک نتیجة تأثر الشعر العربی الحدیث بفن القصـة والروایة  فالحبکة التی یحبکها الروائی فی روایته والقاص فی قصته قد أصبحت مهارة یقتفیها الشاعر المحدث  ویستخدمها .

   وعندما نتحدث عن نسیج السارد لحبکته ، فإننا نتحدث عن بنائه للأحداث ، و" فی الحقیقة لیس هناک معیار أو شکل معین لبناء الحدث... فالکاتب له مطلق الحریة فی اختیار اللحظة التی یبدأ منها . " (9)، فالحبکة تتکون من أحداث ، وهذه الأحداث تضم فی طیها الحدث الزمانی والحدث المکانی ، وحرکة الشخوص  ،  حیث یعرض الحدث عن طریق الحوار بین شخصین أو أکثر ، یهدف به – الحوار- بحث فکرة ما ، بالتدرج والتصعید ، وفی نفس الوقت یبین عن طبیعة الشخصیات المتحاورة. " ( 10) ، کما یعرض الحدث عن طریق تقدیم المکان والزمان والشخوص.

    إن أهمیة الحبـکة تأتی من دورها الحیوی والریادی فی النظام السردی ، وتؤدی وظیفته ؛ فهی " تعید ترتیب الوظائف السردیة بتنظیم تراتبی جدید ، عن طریق إعادة ترتیبها فی مجموعات مختلفة من التحولات الوظیفیة. " (11)، فالحبکة تضم فی طیها عنصر الحدث وعنصری الزمان والمکان حیث تعید الحبکة هذه العناصر فی نظم تراتبی ، مع ما یتصل بها من حرکة الشخوص وعنصر الحوار، فعندئذٍ یختلف هذا النظام باختلاف تناول السارد لحبکته ، فتظهر مثلاً الحبکة ذات البناء الصاعد ، والحبکة ذات البناء النازل ، أو الطریقة التی تبدأ منها الحبکة ، أو تنتهی ( البدایة والنهایة ) ، ومن ثم یظهر التوتر فیها ، فکل ما سلف یشکل الطریقة التی یبنی بها السارد حبکته وینسجها ، لترتیب الوظائف السردیة ، على نحو مختلف فی کل حین.

أما الوظیفة الأخرى للحبکة فهی " إثارة الدهشة فی نفس القاریء " (12)، فتعد هذه الوظیفة مهمة ؛ لأنها تتصل بالقارئ الذی یتذوق العمل الإبداعی ، ومن هنا فإن عنصر التشویق والإثارة له دور فاعل فی جذب المتلقی ، وإثارة فاعلیته التأویلیة .

 

الحبکة ذات الحدث الصاعد:

      یبدأ الحدث فی هذه الحبکة بالتصاعد والارتفاع إلى الذروة ؛ حیث تتعدد الأحداث والأفعال التی تشکل عقداً متفرقة ، فیدفع ذلک إلى نمو الحدث نمواً تصاعدیاً ، یرتفع بتعدد العقد فیه  فوقوع بعض الأحداث المتوالیة مترتب على وقوع بعضها الآخر ، وهذا ما یدفع بالحدث إلى الصعود  فـ " الأحداث التی تقع ، أو التی یقوم بها أشخاص ، تربط ما بینهم علاقات ، وتحفزهم لفعلهم حوافز ، إنما هی أشخاص أو أفعال ، تتوالى فی السیاق السردی تبعاً لمنطق خاص بهـا  یجعل وقوع بعضها مرتباً على وقوع البعض الآخر. " (13)

     ومن سمات الحدث الصاعد ، أن له سمة وظیفیة ، فیؤدی کل حدث دوراً مهماً فی اتجاه النص إلى الأمام ، فیبدو واضحاً ألا یکون تتالی الأفعال اعتباطیاً فی سرد ما ، إنما یخضع لمنطـــق معین. " (14)

کما أن الحدث الصاعد لا یحوی تعقیداً عمیقاً ، یجلب الملل إلى المتلقی ، کما یضفی طابعاً تلقائیاً بالاصطناع والتکلف.

ومما یمثل ذلک فی شعر تیسیر سبول  قصیدة ( ما لم یقل عن شهر زاد ) (15)، وفیا یقول:

شهر زاد

لِمَ أسرت بی حکایاکِ إلى أمس دفین؟

عبر سرداب من الأوهام یفضی لیقین

فإذا بی مثقل أحمل فی جنبی سرا

لیس یدری

هکذا بدأت القصیدة ، عبر صوت داخلی فی أعماق الشاعر ، الذی یستحضر شخصیة شهر زاد  من قصص الأدب العربی القدیم ، ویظهر أول ملامح الصراع فی داخله من خلال السؤال الذی یطرحه: لِمَ أسرت بی حکایاکِ إلى أمسٍ دفین ؟ ، ثم یتعمق الصراع فی داخله من خلال التناقض :سرداب من الأوهام یفضی لیقین ، فهو یرى فی أحداث هذه القصة الخیالیة جزءاً من واقعیة (الیقین ) ، ونلحظ أثر ذلک على نفسه ، حین نراه مثقلاً بالهم ؛ هم المعرفة واکتشاف السر  فشهرزاد المرأة التی طالما جلبت الفرحة والمسرة لنا بحکایاتها الجمیلة ، وقصص الجن والإنس  والتی طالما أحببناها:

عن خفیات لیالیک الطویلة

( ألف لیله

     کل لیله

حلمک الأوحد  أن تبقی للیله).

قصة تروى ومذ کنا صغارا

حملتنا  لأراضی الجن

عبر الریح والأنواء فی عرض البحار.

وحببناک

وحببناک کثیرا

وسهرنا لیلة فی اثر أخرى

لهفة تسأل عما

کان من أمر أخیرا

وعفا من بعد ألف شهریار

ففرحنا.

فی بلادی، حیث عین الطفل والشیخ سواء

دعوة تحیا على وعد انتصار

ثم یتقدم الحدث خطوة ؛ حیث یفصح الشاعر أن هذه المرأة لیست کما کنا نظن، إنها لیست تلک المرأة القویة التی تصدت للظلم  والجبروت ، المتمثل بشهریار ، بل هی امرأة أفنت عمرها فی خدمته ، آملة أن تتحرر من قیده ، فیما کانت عیون الأطفال والشیوخ (دعوة تحیا على وعد انتصار).

     إن صورة هذه المرأة الخائفة أوحت للشاعر بصورة مماثلة ، هی صورة الأمة الخائفة ، لقد رأى من قصة شهر زاد ما یتشابه مع حال الأمة العربیة الخائفة ، التی عاشت لیالیها فی خوفٍ دائم.

ألف لیلة

کل لیلة

حلمک الأوحد أن تبقی للیله.

فإذا ما الدیک  صاح

معلناً میلاد صباح

نمتِ  والموت سویاً فی فراش

ثم یتقدم بالأحداث خطوة أحرى ؛ حیث یعلم أن دعوات النصر والأمـــل بالخلاص لیست إلا محض أوهام.

         شهر زادی

خدعة ضللت الآذان عمرا

ورست فی خاطر التاریخ دهراً.

إن عفا من بعد ألف شهریار

ثم یصل بالحبکة إلى بؤرة الصراع ومحور التأزم الذی یعیشه ، إنه ینطلق من إحساسه بتناقض المشاعر واختلافها ، ثم  لإدراکه الحقیقة ،لذا فإنه فی استحضاره لهذه القصة إنما یرید أن تکون خلفیة ، تعبر عن مشاعره وأحاسیسه تجاه واقعه.

   ثم یتساءل فی نهایة القصیدة هل سنبقى ننتظر ، وهل سنکون کشهر زاد التی أفنت عمرها دون انتصار:

وسنبقى

فی بلادی- حیث عین الطفل والشیخ سواء

دعوة تحیا على وعد انتصار

کلما دقَّ على الأفق شتاء

نتسلى بحکایاک الشجیة

ونغنی لانتصار

لم یکن یوماً ولا یرجى انتصار

تحت عینی شهریار

من هنا نجد تیسیر سبول یعمد إلى استحضار هذه القصة ضمن قالب قصصی ؛ لتعبر عن الواقع الحاضر  ، فالشاعر یرى فی الماضی صورة مماثلة للواقع . لقد استخــدم الشاعر/ السارد ضمیر ( الأنا) فی بنائه للأحداث؛ إذ کانت الأحداث المتتابعة والمتصاعدة مرتبطة بهذا الضمیر ، فیظهر السارد بصورة البطل ، یؤثر ویتأثر بالعوامل الخارجیة ، فنجده قد عاصر وعاش کل مرحلة من مراحل الأحداث.

     ویستمر الشاعر فی شحن الأحداث بضمیر المتکلم ؛ حیث یضیف بعض الکلمات التی تؤکد هذا الضمیر ( بی-  جنبی - بلادی- وجدی- شهر زادی) ، ولعل ذلک نابع من حرص السارد على إبراز ( الأنا) البطل من خلال الأحداث.

     کما أن ضمیر المتکلم یؤدی وظیفة الربط بین الأحداث المتتابعة ؛ حیث یعبر عن الواقع الحاضر من خلال  استحضار هذه القصة / قصة شهر زاد.

      لقد سارت القصیدة من بدایتها إلى نهایتها وفق نظام سردی تصاعدی أراد الشاعر من خلاله أن یصور الواقع العربی بأسلوب أدبی یعکس من خلاله معاناة الواقع الحاضر ، فی صورة الأمة الخائفة .

     إن استمرار الخوف وعدم القدرة على اتحاد الأمة العربیة على کلمة ،  یمکن القاریء من متابعة السرد إلى نهایته ، فالأحداث التی تجری بالأمة العربیة تجعل الانتصار على العدو وهماً ، وما هو إلا شعارات تتغنى بها الأمة العربیة ، فیظهر لنا مما سبق أن الأحداث المتصــاعدة قد أدت  وظائف ؛ منها کشف حقیقة الأمة العربیة ، وقد قابل السارد بین الأحداث ، محاولاً کشف الستار عن الحقیقة التی حرص على إظهارها ، رغم ما یثیره من نقد لاذع للموقف العربی ، کما حملت الأحداث مهمة تمثیل التوتر والصراع ، بین ما هو کائن من الأمة العربیة ، وما یجب أن یکون ، کما منحت المتلقی دوراً کی یشارک فی إیجاد صیغ الخروج من العقدة ، وذلک عن طریق إحیاء الذاکرة العربیة من جدید.

 

الحبکة ذات الحدث النازل:

      إن تتابع الأحداث فی السرد الحکائی یمثل الطریقة التقلیدیة التی تقوم علیها الفنون السردیة  فغالباً ما یقوم السرد بعرض البدایة ، ثم یتدرج بسیر الأحداث حتى تصل إلى الذروة ، ثم یعرض فی النهایة حل العقدة ، لکن الطریقة الأخرى فی تتابع الأحداث تقوم على قلب هذا النظام ، وهو ما یسمى بالحدث النازل ، حیث یبدأ السارد من آخر ما حدث زمنیاً فی آخر الحکایة ، ثم یرد بعد ذلک فی السرد الحدث الذی سبقه زمنیاً ، وهکذا حتى ینتهی ، وقد عاد إلى أول حدث مر به من حیث الزمن.

     وهذا التبدیل الذی یطرأ على نظام تتابع الأحداث ، هو إعادة لإنتاج الحکایة السردیة بصورة تدعو إلى التغییر ، والحدث النازل هو الابتداء بالحدث الأخیر فی زمن الحکایة ،  والتدرج

 

عبر الأحداث النازلة ، حتى یصل السارد فی النهایة إلى أول حدث فی زمن الحکایة ، فالسارد له مطلق الحریة فی التفنن بسرده الذی یبنین " فقد لا یطابق الزمن السردی  الزمن الوقائعی الذی یحیل إلیه ، وقد لا یتتبع تسلسله ، فالراوی یتفنن فی سرد ما یحدث ، یقدم ویؤخر فعلاً على فعل ویلعب وفق ما یراه مناسباً للمسار الذی یبنی ، أو لسؤال التشویق ... " ( 16)

     ومما یمثل هذا المنحى الفنی قصیدة ( النسر الغائب) (17) ؛ حیث یبدأ الشاعر بالحدث الأخیر فی الحبکة ، أی ما حدث زمنیاً فی آخر الحکایة ، وهو  أسر  أخیه ( شوکت ) ، وإبعاده بسبب آرائه السیاسیة ، ویبدأ بندائه بأعلى صوته ، متوجعا ، والحزن یغالبه:

یا نسری ، آه یا نسری

یا نسرا غاصت فی الصحراء مخالبه

یجرحها الرمل ، تغالبه

عریت عروقک یا نسری

وکسرت جناحک یا نسری

ومفاصل عظمک ما وهنت

فالشاعر منذ البدایة یحاول أن یعرض هذا الحدث ، ویقدمه على الأحداث الأخرى ، فالشاعر یبکی أخاه / النسر ، الذی غاصت فی الصحراء مخالبه ، وعریت عروقه ، وکسرت جناحه .ثم یعرض الشاعر الحدث النازل الآخر ، وهو سبب أسره قائلاً:

یا نسری آه یا نسری

فی أسرک مثلی فی أسری

لو أغنیة

      عبر الأبعاد المرمیة

تأتیک تقول بعادک طال

لکن هیهات

   یبست فی حلقی الکلمات

لو نظرة عین منک ترانی

سترى یا کم صرت أعانی

فالشاعر یرتد إلى الحدث النازل / الهابط ، وهو أسر أخیه ، فالأحداث تتوالى وفق وقوعها التاریخی فی الحکایة على النحو التالی/ إن أخاه له آراء سیاسیة ، أدت إلى أسره ، ومن ثم حزنه وتوجعه علیه ، ولکن السارد جعل هذه الأحداث تتوالى تبعاً لنظام مختلف، ینحدر تنازلیاً ؛ حیث یبدأ بالحدث الأخیر فی الحبکة ، ثم یرد بعد ذلک فی السرد الحدث الذی سبقه زمنیاً ، وهکذا حتى ینتهی ، وقد عاد إلى أول حدث مر به ، من حیث الزمن.

      لقد سارت القصیدة وفق نظام سردی تنازلی ، حرص الشاعر من خلاله على إبراز حزنه وفجیعته  على أخیه الذی أسر وأبعد عنه ، حیث انتهى إلى ما بدأ به قائلاً:

        قلبی

        عینی

کل عروقی تصرخ ( ماء)

والماء مع النسر الغائب

والنسر یغالب فی الصحراء

حیث یؤکد إصرار أخیه على موقفه وثباته على آرائه التی کانت سبباً فی أسره وفقده وبعده عنه.

 

السرد المباشر:

     یطغى ضمیر الغائب ( هو ) على مجریات الأحداث ، فیقدم السارد سرده بطریقة مباشرة  تظهر فیها الشخصیة ، بینما ینأى السارد بنفسه قلیلاً عن التأثیر على مجریات الأحداث ، فهو یقدم شخصیة بضمیر الغائب ، وهذا ما بینه وبین شخصیته ؛ حیث " یقدم الکاتب الأحداث فی صیغة ضمیر الغائب ، وتتیح هذه الطریقة الحریة للکاتب لکی یحلل شخصیاته وأفعالها تحلیلاً دقیقاً وعمیقاً ، ثم إنها لا توهم القارئ بأن أحداثها عبارة عن تجارب ذاتیة وحیاتیة ، وإنما هی من صمیم الأشیاء الفنیة. " ( 18)ومما یمثل ذلک قصیدة ( مرثیة شیخ ) ( 19)

یقول تیسیر سبول:

کان صوتاً شاحباً أعلن

أن الله أکبر

سورة الإغماء شدت وجهة العانی 

عمیقا

    یعبر الشاعر عن حزنه لوفاة والده ، حیث یشیر الصوت الشاحب إلى الانکسار والحزن والفجیعة والسبب موت الشیخ الذی یرمز للإرث القدیم والمجد الغابر ، وأصبح جسداً هزیلاً  مسجى فی رقدة الموت ، فتغیرت لموته مظاهر الحیاة ، هذا التغیر فی مظاهر الکون یعنی أن الشیخ لم یکن شخصاً عادیاً ، وحیاته لم تکن حیاة عادیة .

إن هذا الهیکل الملآن أصداء

سنینا ومراره

ذا الجبین الناتئ المشرع  للأنواء

یومئ بجسارة ،

         ولذا فالشاعر فی تقریبه لصورة الشیخ صوره بالسفینة ،حیث یعبر الشاعر عن مسیرة والده ، أو مسیرته هو فی هذه الحیاة ، بل هی تشیر إلى الموقف الشعری والتجربة التی عاشها  وعانى مرارتها  فیصف تجربته ، بکل ما قاسى فیها من بؤس ومرارة ، التی صورها بسفینة  واجهت غضب الأمواج والحیتان ، متحدیة  رافضة ، حتى ملت فی النهایة کل شیء ، وفقدت الإحساس بطعم البحر ونکهته ، واستسلمت أخیراً بعد أن فشلت ، ولم تحقق هدفها ، فمالت لتنام.

فلنقل: کان سفینة

مثلت أضلاعها للریح فی عرض البحار

وتحدت مغضب الأمواج  والحیتان

عاما بعد عام ،

وتناهت نکهة البحر وسر البحر فیها،

فلنقل :

داخت أخیرا

وتداعى برجها الآن

فمالت لتنام

ثم صوره بالسیف:

فلنقل : سیف جلیل نائم

قد کان ینهض

 

ظامئ الشفرة   أبیض

جاب أمداء

          وخلى  أثرا

                  أیا کان  ،

اغمدوه

آن یستلقی مسجى  فی الغماد ،

فی جدار المنزل الأرحب صدرا

علقوه

    ولیکن  عالی النجاد

حق بعد الیوم ألا یشهرا

       لقد کان الشیخ سیفاً جلیلاً ، لکن الآن موضوع فی غمده ، ومعلق فی جدار المنـزل  وکتب علیه ألا یرتفع بعد الیوم ، السیف رمز الکرامة العربیة ، أو التاریخ العربی الذی کان ملیئاً بالإصرار والتحدی والانتصارات والمفاخر ، نجده الیوم معلقاً فی جدار المنزل ، مجرداً من الفعل.

   ثم یستکمل الشاعر السرد ، والحدیث عن السفینة ( الهیکل الیابس ) ، والسیف ، والذی یشیر به إلى الحال التی أصبح العرب علیها ، فقد بدا المجد العربی بشموخه واستشرافه کسندیانة تعیش فیها النسور ، رمزاً للقوة والعلو ، تحطمت ، وتعالت فوق الجراحات ، وقاومت ببأس وصلابة کل ما جابهها من عدوان ، ثم تهاوت وصارت إلى الحال التی وصلت إلیه السفینة.

هی ذی الآن  تهاوت

بعد أن برّحها طول اعتوار

لا تقولوا  ( لم تکن )

کانت ،

وهذا الهیکل الیابس

من نفس  الأرومة ،

بورک  الشیخ سلیل السندیان

ذلک الشیخ الذی یغفو

ملیئا بالزمان ،

الهیکل الیابس هو الشیخ ، والهیکل من نفس أرومة السندیانة ، والشیخ سلیل السندیانة  والسندیانة کانت تعیش فی عزة وقوة ، رمزاً للشموخ العربی ، والشیخ الذی هو من سلالتـها رمز  للإنسان العربی ، الضاربة جذوره فی أعماق التاریخ.

ثم یکمل الشاعر سرده بأن غفوة الشیخ لابد أن تنقضی ، وأن یعود من غفوته ، ویعنی بذلک العودة إلى دماء الجدود ، والتسلح بالمجد الغابر والکرامة العربیة ، فهما السبیل للعودة للحیاة.

فالمسا ینتظر

والشجر

مدّ أیدیه  عاشقا

         سائلا

            أن تعود

                 لنسوغ الجدود .

     وبهذه الطریقة فإن الشاعر یسرد حال الشیخ بضمیر الغائب ( هو ) ؛ إذ یقف سـارداً  أو ناقلاً فی صورة حکایة ( یحکیها ) ، واضعاً بینه وبین هذه الشخصیة حاجزاً ، وهذا الحاجز هو ضمیر الغائب ، ویکتفی بالعرض السردی ، وینأى بنفسه قلیلاً عن الأحداث المدرجة.

 

السیرة الذاتیة:

     حیث یغلب- هنا- استخدام ضمـیر المتکلم ، فیظهر ( الأنا )بوضوح فی السرد الذی یسرده الشاعر ، " فالراوی یروی من خلال معرفته الشخصیة ، ومشارکته الأحداث  والراوی ( أنا )  ینطلق  فی معظم الأحیان من زاویة نظره هو ، فهـــو الذی یرى ویتکلم . "(20)

        عندئذٍ ینقل السارد معانیه ودلالاته إلى المتلقی ، واضعاً فیها تجربته الخاصة بشکل مباشر ، دون اللجوء إلى التستر ، ومما یمثل ذلک قصیدة ( غجریة ) (21)

یا جحیم الطبل والمزمار عد بی

لعشیات العصور الوثنیة

عبر عینی غجریة

رحلتی خلف مسافات قصیة

خلف ما یرتاد وهم أو خیال

        حیث تفتتح القصیدة بالإشارة إلى شعوره بالضیق من القسوة واللؤم والغموض الماثل فی تلک الغجریة ؛ التی یرمز بها للمرأة اللعوب ، إن موقفه من هذه المرأة یجسد موقفه من جملة النساء اللائی یعشن هذه الحیاة العابثة ، وهی کذلک صورة من صور التردی الذی یعیشه المجتمع  لکنه على الرغم من هذا الموقف مشدود نحوها ، یعلم أنها تهدم نفسه ، ولکنه لا یحاول الخلاص منها  بل یطلب إلیها أن تسرقه من واقعه المضنی ، وتنسیه الألم ، ولو کان بألم آخر ، والذی یتمثل فی هدم قیمه ومبادئه.

غجریة

قدم تضرب صدر الأرض، تعلو

وتدق الأرض دقا

زوبعات من غبار

ودوار

وعروق مجهدات.

تتلظى وقد نار.

أمطرینی

أمطرینی

من سدیم الغیب زخات سخیة

ألصقینی بالترب

     یسعى الشاعر من خلال سرده القائم على ضمیر المتکلم ( أنا)نحو الحیاة الفطریة البسیطة  والبعیدة عن جفاف المدینة وجدبها ، وتلک نظرة مثالیة ، تهرب من دنیا الواقع النفسی ، إلى عالم وهمی ، هی رحلة رمزیة إلى الحیاة الفطریة الخالیة من الآثام والمفاسد ، وهی  فرار من برودة الحزن ، إلى دفء العاطفة.

        وتکمن المفارقة فی أن الشاعر فی هروبه إلى هذه الغجریة ، یقف أمام ما هرب منه  فتتجسد أمامه معاناته فی واقعه ، وقد عبر عن ذلک بقوله: ( قدم تضرب- صدر الأرض تعلو- وتدق الأرض دقاً)

     إنها قدم الاستعباد والحریة المصادرة ، القدم التی هرب منها یجدها أمامه فی صورة هذه المرأة التی تدق بقدمیها الأرض ، وهی تدق الأرض ، ولا تضربها ، وکأنما تحفر فیها لتترک أثراً ، أو تقیم أساساً ، وموقفه من هذه المرأة / الغجریة یجلیه قوله ألصقینی بالتراب ، ومع أن لفظة التراب تحمل دلالات عدیدة ، لکن سیاق القصیدة یشیر إلى أن فیها ما یجلب العار ، ویلوث النفس  وکأنه یقول تمرغ وجهی فی التراب أو الوحل.

    لقد خرج الشاعر باحثاً عما یبعده عن الحیاة التی یعیشها ، یبعده عما فیها من تناقضات فکانت النتیجة أنه عاد بخیبة أمل ، حینما وجد نفسه فی صورة تعکس واقعه ؛ حیث یقول:

غجریة

جثث تهوی، تموت

مثلما ینتفض الطیر الذبیح

مثلما تعصف بالأوراق ریح

ثم یکشف عن موقفه الذی دارت حوله القصیدة ، من خلال السرد الذاتی قائلا:

غجریة

هارب یحملنی مدّ الدروب

قدری الأسود مجهول رهیب

وتناهى بی مطافی

عند عینین هما مقبرتا

کل الخوافی

  وهکذا یظهر السرد مفارقة واضحة ؛ فالغجریة / المرأة التی لجأ إلیها الشاعر اختارها رمزاً للنقاء والطهر والبراءة ، وأصبح للجوء إلیها نزوعاً نحو البساطة والفطرة والنقاء.

      أمطرینی  أنت مازلتِ غنیة

لم یلطخ شفتیک الطین

بنیا واحمر

لم تخونی منحة الشمس

فهذا الوجه أسمر

ما کسته حلل الوجه المزور.

    فقد عاش الشاعر أحوال القهر والظلم والاستبداد ، فیبدو من خلال ذلک مشارکاً رئیسیاً فی الأحداث ، ویرى نفسه عارفاً بصور التناقضات والزیف ، وهو الذی یراها ویتحدث عنها کما عاشها ، وهو بذلک یرید إعطاءنا صورة واضحة عما حدث من زاویة رؤیته.

   وقد اتجه السرد بالحدیث إلى ضمیر المتکلم وضمیر المخاطب ، بعد أن کان یسوده ضمیر الغائب حیث یضفی ضمیر ( الأنا) على النص دقة التعبیر ، ویکشف عن رؤیا العمل؛ حیث تعکس التجربة التی یخوضها الشاعر بهذا الضمیر صورة توهم بالواقعیة ، فهو مشارک فی الأحداث ، مما یقرب إلى المتلقی صورة الأحداث عن کثب.

        وإذا نظرنا إلى الأفعال الواردة ( أمطرینی- ألصقینی- یحملنی- أنحر)  نجد أن دخول الشاعر إلى هذه الأحداث بهذه الصورة یعزز الرؤیة الشعریة ، ویثریها ؛ لأنه هو من یقوم بالأحداث ، أو تقوم فیه الأحداث ، یؤثر ویتأثر فیها ، ومن هذا الجانب یقدم ضمیر ( الأنا ) – هنا- دوراً حیویاً فی دعم النسیج السردی المتکامل .

     کما یکشف ضمیر ( الأنا) العوامل النفسیة والداخلیة التی تکمن فی الأحداث، مما یجعل العمل السردی أقرب إلى الواقع ، ویجعل الشخصیة تنطق بمکنوناتها الداخلیة ، وتظهر أفکـارها  " فالسرد بضمیر المتکلم من شأنه أن یضئ الشخصیة من الداخل . " (22) فیمارس السارد من خلال استخدامه لضمیر ( الأنا) لعبة فنیة ، تسنح له بالحضور القوی فی قلب الأحداث ، حیث نجده  عنصراً فاعلاً ، یقوم بالأحداث من خلال موقعه کفاعل ، فهو عالم بما یحدث داخل النص السردی ، فنجد الشاعر یشیر إلى ذلک :

أنا من خلف المدینة

ظامئاً لم یسقنی إلا السراب

وهذا یدل على حرص الشاعر فی التدخل ، الذی یوهم الإقناع ، فالسرد بضمیر المتکلم ( أنا) هو " سرد یستخدم تقنیة الراوی بضمیر ( الأنا) ؛ لیتمکن من ممارسة لعبة فنیة ، تخوله الحضور ، وتسمح له بالتالی التدخل والتحلیل ، بشکل یولد وهم الإقناع . " (23)

 

****

 

 

 

 

 

المبحث الثــــانی

المکـــــان

    المکان عنصر مهم من عناصر السرد ، یبرز قیمة العمل الأدبی ، وخصوصاً النصوص الشعریة  فهو یرتبط ارتباطاً وثیقاً بالزمن ، کما یرتبط ارتباطاً وثیقاً بالمکونات السردیة الأخرى ،" یتمتع المکان بأهمیة استرتیجیة وسیمیائیة فی تشکیل الخطاب السردی ، عبر تحاثیه( تداخله ) مع المکونات السردیة الأخرى " ( 24) ، فهو بمثابة خلفیة رئیسیة ولوحة یدرج ویرسم علیها الشاعر أو السارد ألوانه المختلفة ، فتظهر الأنماط والأشکال السردیة من خلال هذا المکان لوحة متکاملة ذات صبغة جمالیة.

  کما تشکل نسبة العلاقات التی یرسمها الشاعر ما بین الأمکنة وغیرها من الأشکال السردیة عنصر بناء أساسی ، تتشکل من خلاله رؤیة الشاعر والسارد ، ولعلنا إذا نظرنا فی دیوان تیسیر سبول ، فإننا سنجد مجمل قصائده قد أطرها بالمکان.

 ویشکل عنصر المکان آلیة مهمة ، یکونها الشاعر ، لتشکیل قصائده ، ویرسمها عبر تفاعلات متعددة ، وتحولات أساسیة ، " فالمکان عندما ینتقل من مداره الواقعی الحیاتی العادی ، إلى مداره الفنی الروائی أو الشعری ، یمر من خلال أنفاق متعددة ، نفسیة وأیدیولوجیة وفنیة ، لکی یصل أخیراً إلى المدار الفنی التشکیلی. " ( 25)

      لقد رسم تیسیر سبول الأمکنة التی تتعلق بالواقع الفعلی فی معظم قصائده ، فنجده ینظر إلى المکان نظرة مختلفة ، فلم یعد المکان هو مصدر الطمأنینة الإنسانیة ؛ لذا " فإن تغیـــیر طبیعة الإحساس بالحیاة هو الذی جعل أدباء القرن العشرین یغیرون أسلوب تعاملهم مع الواقــــع ، فلم یعد إحساسهم بالمکان یبعث فی أنفسهم الشعور بالاطمئنان ، لذلک تغیرت نظرتهم إلیه . " ( 26)

     وقد شکل المکان حیزاً محوریاً من اهتمام الشاعر تیسیر سبول وعنایته ، وقد تم توظیفه توظیفاً خاصاً ، عکس رؤیته الشعریة للواقع الإنسانی بوجه عام ، والأردنی بوجه خاص  وأبدى حرصاً واضحاً على استرجاع الأماکن ذات العلاقة بطبیعة مفردات تجربته الذاتیة  التی شهدت طفولته وصباه ، وینم ذکر تلک الأمکنة وتعدادها على محاولته التشبث بهذه الأمکنة ، والتعلق بأطیافها الباقیة فی الذاکرة ؛ ذلک أن " الأماکن التی مارسنا فیها أحلام الیقظة تعید تکوین نفسها فی حلم یقظة جدید ، ونظراً لأن ذکریاتنا عن البیوت التی سکناها نعیشها مرة أخرى کحلم یقظة ، فإن هذه البیوت تعیش معنا طیلة حیاتنا" ( 27)

 ومن یتأمل هذه الأمکنة وتجلیاتها فی خطاب تیسیر سبول الشعری یجدها أماکن غیر بینة المعالم  ومن الأماکن التی شغلت اهتمام تیسیر سبول ( المدینة ) .

یقول الشاعر  ( 28)

صدیقتی

کل العیون ها هنا حزینة

فالحزن قد غزا المدینة

جنوده الأقزام قد تسلقوا البیوت

وحطَّ فی آفاقنا سکوت

تشی الوجوه ها هنا

بأننا نموت

لا  تشفقی  – صدیقتی

یقتاتنا السأم

برقة ودونما ألم.

إن مدینة الشاعر حزینة ، ویبدو الحزن فی صورة الجیش الغازی ، وله جنود من الأقزام الذین یتسلقون البیوت ، وهذه الصورة الغریبة تعبر عن إحساس  مماثل بغرابة الحزن الذی سیطر على الشاعر ، بل على الناس جمیعاً ، حیث یصور الحزن بجیش قوی ، یتسلق البیوت کلها  ویدمرها  ویقتل أهلها، والمدینة صامتة ، وکأنه یرصد المدن العربیة التی یعیش فیها العربی ، کأنه فی ساحة حرب ، مع الأنظمة والحکومات ورجالها ، کما تعبر عن إحساس الشاعر بالحزن والألم والوحدة والوحشة والسکون والضعف.

کما ورد لفظ ( الدرب ) فی دیوان الشاعر فی مثل قوله :  ( 29)

أنا أبکی محنة الوحشة فی صدر الغریب

حینما لحتِ مع الجلاد

تلغینی أذن عیناکِ؟

أغدو کالسراب.

فی ضمیر الکون شلَّ البوح وانهد نشیج

سدّت الدرب فلا حلم دخول أو خروج

آه، آه ، الجدب یقتات المروج .

ورمى الملاح للیمّ شراعه

کانت الخیبة ترتاد جبینه

ونأى.

رحلة نحو ضفاف دون حب أو ضغینة

وبلا ماض ولا مستقبل : محض انتظار

لا  تلومی

لا  تلومی

أغلقت کل دروبی

فلتکن درب الفرار.

حیث یبدو درب الشاعر مسدوداً ، وصور الشاعر نفسه ملاحاً ، تعود الأسفار ، ورکب البحار حتى وصل الشواطئ الأخیرة ، وألقى عصا الترحال ، متعباً ، منهکاً ، حزیناً ، تغلف الظلمة قلبه  وتفرش الوحشة صدره ، وتکسو الخیبة وجهه ، ویأکل القلق نفسه ، ویبدو أن الشاعر وصل إلى طریق مسدود ، وأصبح مسلوب الإرادة ، یائساً  ومحبطاً وخائفاً ، وصار مجهول القدر ، وکأنه یشیر إلى واقع الأمة العربیة ، المسکونة بالأحزان ، بسبب الانکسارات والانهزامات التی لحقت به.

    ویعد الشارع من أمکنة المسارات التی تجری فیها الأحداث ، وهو بمثابة متنفس ونقطة وصل ما بین المدن والأبنیة ، " هذا المکان الذی یلتقی فیه الناس جمیعاً ، فی أی ساعة ، لیلاً أو نهاراً  ومهما کانت منازلهم الاجتماعیة ومهمتهم وأعمارهم وانتماءاتهم وشتى عوامل اختـلافهم،  فهو

بالتالی أهم معرض لشبکة العلاقات والوظائف ، التی تنبنی علیها ثنائیة الأنا والآخر ، التی تمثل العمود الفقری للمعیش الیومی" ( 30) .

وقد استخدم الشاعر تیسیر سبول الشارع فی قصیدة ( عودة الشیخ ) (31)

هو ذا شیخ الشتاء

أغلق الأفق وجاء.

هو ذا ینقل فی الشارع نقرات عصاه

قادم یحمل فی سر إهابه

أدوات من فنون السحرة ،

ریشة ترسم أقواساً على عرض السماء

وزناداً  یشعل البرق وغلیوناً لتصعید الغمام

فقفوا

      ودعوا لغو الکلام

واهتفوا

مرحبا، شیخ الشتاء.

     حیث یجرد الشاعر من الشتاء شیخاً ، ثم یصف هذا الشیخ بالرجل القوی ، الذی ینقر بعصاه الشارع ، ویکشف هذا التصویر عن موقف الشاعر من القدریة ، الذی یجب أن یخضع لها  ولا یملک إزاءها إلا أن یصمت ، ویترک لغو الکلام.

     کما وردت ( الصحراء ) فی شعر تیسیر سبول ، والصحراء تشکل مکاناً واسعاً ، وهی ببعدها الشاسع تمثل حاجزاً یفصل الأقطار ، بعضها عن بعضها الآخر ، فلابد للذی یرید اجتیازها من أن یمتلک الصبر والمثابرة والشجاعة ، فی مواجهة المصیر المحتوم ، الذی تنطوی علیه  ، لذا ارتبط مفهوم البعد والغربة عن الوطن بالصحراء ، التی تمثل حاجزاً واسعاً ، تفصل بین الأخلاء والأوطان، " ولعل من أبرز جمالیات المکان الصحراوی ارتباطه بالعدوان على الحریة الفردیة ، فی مؤازرة البحر الذی یشارک الصحراء هذه السمة ، فالتضاد الکونی الواسع یغری الناس باستلاب حریة بعضهم ، ولعل الصحراء ارتبطت بالعدوان والغزو وقطع الطرق ، وکذلک ارتبطت رمزیة الصحراء بإحاطتها الواسعة بالفرد الذی تستلب حریته. " ( 32)

وقد ظهرت الصحراء فی شعر تیسیر سبول بهذه الصورة فی قوله:

من زمان (33)

من تجاویف کهوف الأزلیة

کن ینساب على مدّ الصحاری العربیة

لیتنا کالحلم سحریا شجیا

یتخطى قمم الکثبان

                یجتاز الوهاد

من زمان

شربت حسرة ذاک الصوت

حبات الرمال

مزجته فی حنایاها

فکأنی قد تنفست شجونه

وکأن الصوت فی طیات صدری

رجع الیوم حنینه

فأراه

بدویاً خطَّت الصحراء لا جدوى خطاه

موحشاً یرقب آثار الطلول

--------------

خلتنی  عدت أراه

بدویاً خطَّت الصحراء لا جدوى خطاه

سار فی عینیه وهجَ الشمس

والرمل وعود برمال

ومدى الصحراء صمت

وعذابات ارتحال ،

فتغنى

وسرى الصوت على مدّ الصحاری العربیة

مودعاً  فی الرمل غصَّات أغانیه الشجیة

إن هذا الصوت المنبعث من ذات الشاعر  إنما هو تعبیر عن حقیقة المشاعر التی تعمر نفسه تجاه الإنسان العربی ، الذی عاش على هذه الصحراء منذ الأزل ، لکن الشاعر لا یبسط لنا مشاعره  لنتلقفها جاهزة ، بل یترک الرمز وتداعیات القص یعبران عن موقفه النفسی ، لقد أحس الشاعر بصوت یتردد حوله ، یسمعه ، فیشعر بقدمه ، صوت منبعث من تجاویف الکهوف ، قطع الأمداء  وسار عبر الصحاری ، متخطیاً الکثبان والوهاد ، هکذا یبدو الصوت عمیقاً أزلیاً .

      لکن الشاعر لا یکتفی بذلک ؛ حیث یضیف إلینا رموزاً تصور المأساة التی یجسدها الصوت (شربت حسرة ذاک الصوت ذاک حبات رمال )  ، فهو صوت حزین ، تجرع صاحبه الحسرة والألم ، وهنا یربط الشاعر بین الصوت ، وما بداخله  من حسرة ، وبین حاله هو ( مزجته فی حنایاها- أعادته إلیا) ، وینبعث الصوت مجدداً ، ولکن متوحداً مع الشاعر ، فیخرج من طیات صدره ، لیرى عندئذٍ صاحبه ( بدویاً خطت الصحراء لا جدوى خطاه) .

     لقد حاول الشاعر فی هذه الأسطر الشعریة أن یقیم علاقة لحمیة بین الماضی والحاضر ، تجربة الماضی ممثلة بالأمجاد العربیة ، تشارکه حاضره ونفسه ، فیحاول الوصول إلى اکتشاف ذاته  ومعرفة هویته .

 

وقد وردت ( صحراء سیناء ) صراحة فی شعر تیسیر سبول فی قوله:(34)

أزجی لسیناء العجوز نحیب شعبی

لا صدى

عشرون ألف مقلة

نقر العقاب

واللیل أطبق

فلیکن لیل- وکان.

لا

والقادسیة قصة عجفاء

فرس الهزیمة ، لیس غیره

عشیة امتقع النهار بذلّ  شعبی

تسری فی الزمان

باسم الذین تجندلوا

فرس الهزیمة تنثنی

سیناء

سیناء ، یا قلب أصمُّ

علیکِ صلى الله ها جسد العروبة

أسطورة ملأى بتاریخ الجراح

تمددت فوق الرمال.

حیث یعبر الشاعر - فی هذه القصیدة – عن عمق الأثر الذی خلفته مأساة النکسة فی النفس العربیة ، حین حمل إنسانها جرح الإحساس بالهزیمة ، إحساس المصدوم بمرارة واقعه  والمخذول المخدوع بما کان یؤمل من نصر ، فحین طلع الصباح اتضحت معالم المعرکة، ولم یکن ثمة نصر ، بل عیون مطبقة ، ونساء فقدت الدفء بموت أزواجها.

   وفی خضم الإحساس بهول  الکارثة یفقد الشاعر الإیمان بجدوى أی خطوة ، فلا یفید البکاء ، ولا استحضار الأمجاد أو الاستغاثة بالعرب ، فحین لاحت سحب الهزیمة وذبح الرجال ، ونقر العقاب العیون ، عندها غاب النور وساد الظلام ، وصارت أصوات النصر مجرد هذیان.

 

  لقد أحس الشاعر  بألم النکبة ، وعانى مرارة الهزیمة ، فکان صدى صوته نشیجاً دامیاً مراً ، وسوطاً یجلد به ذاته ، قبل أن یجلد به الآخرین ، وفی غمرة هذا الإحساس بالألم کان فی بحث دائب عن أی تفسیر صادق لما حدث ، ویحاول تلمس الأسباب، بعیداً عن الهذیان  وتکون هذه الوقفات بدایة التحول ، لیعود لأمل بحتمیة النصر ، على ید جیل آخر ، یستمد القوة من الذین ضحوا بأنفسهم ، ومضوا باسم الذین تجندلوا

فی أرض سیناء العجوز.

زند سیبرق

کفُّ  جیل سوف تلتقف العنان

ویعود فی نهایة القصیدة للتأکید على أن الحرب مع الأعداء لم تنته ، وأن أولئک الذین قضوا فی سبیل بلادهم قد حملوا شرف الریادة ، لتکون دماؤهم شعلة النور ، التی یستضیء بها الذین یواصلون الدرب ، فیستفیدون من الهزیمة.

      وهذه النهایة إنما تأتی فی انسجام تام مع ذلک التصور الذی کان یحمله تیسیر سبول عن حتمیة انتصار العرب على الصهیونیة العالمیة ، نهایة قصة ستعیش عقوداً لم تنهار أمام العملاق العربی الذی بدأ یستیقظ من غفوته مع نهایة القرن التاسع عشر.

  ومن الأماکن التی وردت فی دیوان تیسیر سبول ( القبر ) ، ویشکل القبر مکاناً ضیقاً مغلقاً ،وهو بمثابة مجمع ومثوى أخیر للأوجاع والآلام والأحزان ، کما یمتاز بالظلمة ، ففی هذا المکان یموت الأمل ، وذلک بانقضاء صور الحیاة ، وتبقى الذکریات المحملة بعبق الماضی الغابر.

یقول الشاعر :   ( 35)

وأنا أصرخ – تکذیباً لعینی – ( محال)

لحظة مضنیة الصمت

هوى نجمی – تلاشى لزوال

والمروج الخضر بالأمس تعرت

واستحالت لیباب

فإذا صدرک أخوى من خراب

وإذا أنت

کقبر متداع تحت أطباق التراب

****

 

المبحث الثالث

الزمــــن

       الزمن فی مفهومه الأدبی آلیة مهمة ، لها أبعاد وظیفیة وجمالیة ، فهو یشکل أداة فنیة فی العمق الشعری ، یشکل بها الشاعر منجزه الفنی ، فیجسد  مشاعره وأحاسیسه ومادته الأدبیة والشعریة الخام ، إذ تعد الأزمنة وما تحویه من أحداث مثارة، یستلهم منها الشعراء ضوءاً لبناء عملهم الشعری، أما على المستوى السردی ، فإن الزمن یجمع بین زمن الحکایة الذی حدثت فیه القصة ، وزمن السرد الذی کتبت فیه هذه الحکایة ؛ حیث یقوم الروائی على لسان السارد بالتلاعب فی النظام الزمنی للحکایة ، فالزمن الأدبی لا یفتـرض احترام تسلــــسله الزمنی  " فالإمکانات التی یتیحها التلاعب بالنظام الزمنی لا حدود لها، وذلک أن الراوی قد یبتدئ السرد فی بعض الأحیان ، بشکل یطابق زمن القصة ، ولکنه یقطع بعد ذلک السرد ، لیعود إلى وقائع تأتی سابقة فی ترتیب زمن السرد عن مکانها الطبیعی فی زمن القصة. " (36) فالسارد یقطع وتیرة النظام الزمنی المتسلسل ، لیسترجع الأحداث الماضیة ، أو قد یستبق الأحداث فی السرد  بحیث یتعرف على وقائع الأحداث قبل وقوعها.

 

من آلیات الزمن السردی:

الاسترجاع:

     الاسترجاع هو أحد الأسالیب التی یصطنعها الکاتب ، یستطیع به أن " یؤلف نوعاً من الذاکرة القصصیة التی تربط الحاضر بالماضی ، وتفسره وتعلله ، وتضئ جوانب مظلمة من أحداثه  ومسارات هذه الأحداث فی امتداداتها أو انکساراتها ، واسترجاع الماضی إیقاف للسرد المتنامی للعودة إلى الوراء " (37) ، فالرجوع إلى حقبة زمنیة إلى الوراء ، یصاحبها التذکر المرتبط بالفعل الماضی ، الذی ینقب عن القدیم والرجوع إلى فترة  سابقة ، هو استدعاء للزمن الماضی الذی هو بمثابة مرجع یعود إلیه السارد ، لتوضیح شئ ما یرد فی الحاضر ، لذلک اتسم الاسترجاع بعدة وظائف ؛ منها:

أ‌-                 إعطاء معلومات عن ماضی عنصر من عناصر الحکایة ( شخصیة- إطار- عقدة ).

ب‌-            سد ثغرة حصلت فی النص القصصی ، أی استدراک متأخر لإسقاط  سابق مؤقت ، ویسمى هذا الصنف اللواحق المتممة أو الإحالات.

ج- تذکیر بأحداث ماضیة ، وقع إیرادها فیما سبق من السرد ، أی عودة السارد بصفة صریحة أو ضمنیة إلى نقطة زمنیة ، وردت من قبل ، ویسمى هذا الصنف باللواحق المکـــررة والتذکیر. (38)

       ویتشکل الاسترجاع " من مقاطع استرجاعیة ، تحیلنا على أحداث تخرج عن الحاضر  لترتبط بفکرة سابقة على بدایة السرد ، أی استرجاع حدث سابق عن الحدث الذی یحکی  وروایة هذا الحدث لحظة لاحقة لحدوثه . " ( 39) وفی الأغلب یأتی الاسترجاع مرتبطاً بالفعل الماضی ، حیث الذکریات التی تعود بالنص الشعری إلى أعماق الماضی ومجریاته .ومما یمثل ذلک قصیدة ( مرثیة الشیخ ) (40)

یقول الشاعر:

کان صوتاً شاحباً أعلن

أن الله اکبر

فحملنا الجسد الهش وسرنا

----------

ربما قبل عصور

کان هذا الهیکل الیابس یوماً

سندیانة

شمطت تستشرف الودیان

مدت جنبات

عششت فیها نسور

من عل

      راقبت الذئبان تقتات بحملان

تستدعی آلیة الاسترجاع حادثة سابقة ، وهی موت والده الشیخ ، والشیخ – هنا- یرمز للإرث القدیم والمجد الغابر ؛ فالشیخ لم یکن شخصاً عادیاً ، وحیاته لم تکن عادیة ، فالشیخ رمز للمجد العربی ، بشموخه واستشرافه الذی کان کسندیانة ، تعیش فیها النسور ، رمزاً للقوة والعلو  تحملت وتعالت فوق الجراحات ، وقاومت ببأس وصلابة ، کل ما جابهها من عدوان.

 

 

        والشیخ سلیل السندیانة ، والسندیانة کانت تعیش فی عزة وقوة ، رمزاً للشموخ العربی  والشیخ الذی هو من سلالتها رمز الإنسان العربی ، الضاربة جذوره فی أعماق التاریخ ، وهنا نجد رثاء الشیخ ، واسترجاع حادثة موت الشیخ الذی کان رمزاً للقوة والشهامة والشموخ ، لیقارن بین الماضی الذی کان به الأمجاد والعزة والکرامة، وبین الحاضر الذی اندثرت فیه الأمجاد العربیة.

        لقد کان الاسترجاع اقتباساً من الماضی ، أراد الشاعر من خلاله إبراز الصورة التی یجب أن یکون علیها الإنسان العربی  ، فما آلت إلیه الأحوال والظروف  ،  وما حدث من تغییر على الأرض ، والإنسان فی الحاضر ، تستجلیه الإرادة والعزم والتغییر المنشود ، والتطلع إلى أمجاد الماضی من هذه الزاویة ، هو تطلع إلى واقع جدید ، مختلف عما هو علیه الآن ، حیث یستمد الشاعر هذه القیم المثلى والحیاة الفضلى ، التی قرنها بالصورة المشرقة التی کانت فی المـاضی حیث البطولة والکبریاء والثورة ، ویتمنى من خلال هذا الاسترجاع أن تستمر هذه الصورة فی الواقع الراهن، وأن یعود الإنسان العربی ووطنه إلى ما کانا علیه من قبل.

   لقد کان تیسیر سبول مستغرقاً  فی الماضی ، واستغراقه کان إیحائیاً ، حین أصبح الماضی محفزاً ومحرکاً لروح جدیدة ،  جدیدة ، نحو تحقیق الحلم ، فهذا الماضی مسکون بحب الأرض والتعلق بها لذلک کان الماضی والحاضر لدیه متلازمین ومتداخلین ، حیث أخذ الحاضر یحفز الشاعر لاستعادة الماضی إلیه ، موازناً بین زمنین ؛ زمن المجد والبطولة  والشرف ، المتمثل فی الماضی ، وزمن الهزائم والأحزان والفساد المتمثل فی الحاضر.

کان لابد لتیسیر سبول من أن یبرز فی الاسترجاع الشموخ والهیبة والکرامة العربیة ، وربطه ربطاً وثیقاً بالحاضر الذی کان انهیاراً لتلک الأمجاد العربیة ، وفی التذکیر بالماضی بعث لروح جدیدة  تحمل الهم والأحزان ، کما تحمل الوعی بالقضیة العربیة.

فالمسا ینتظر

والشجر

مدّ أیدیه عاشقا

   سائلاً

    أن تعود 

     لنسوغ  الجدود

      إن الشاعر یرى أن هنالک وقتاً للاستیقاظ والعودة إلى دماء الجدود وجذورهم ، والتسـلح

 

 بالمجد الغابر والکرامة العربیة ، فهما السبیل للعودة للحیاة. وهکذا استطاع الشاعر أن یسلط الضوء على هذه القضیة ، العودة للأمجاد العربیة ، من خلال آلیة الاسترجاع ، ومن هنا "تأتی أهمیة الاسترجاع کونها تقنیة تتمحور حول تجربة الذات ، وتعادل وفقاً للمصطلح النفسی ما یسمى الاستبطان ، أو التأمل الباطنی " (41)

 

الاستباق:

    الاستباق هو استحضار الأحداث الواقعة فی المستقبل ، وهو " القفز على فترة ما من زمن القصة ، وتجاوز النقطة التی وصلها الخطاب لاستشراف الأحداث ، والتطلع إلى ما سیحصل من مستجدات فی الروایة . " (42) ، ویأتی الاستباق مفتوحاً على المستقبل الآتی ؛ إذ ینتهی زمن السرد ویظل الاستباق معلقاً ، ویکون تعلقه مرهوناً بمعطیات الواقع الحاضر ، ومما یمثل ذلک قول الشاعر:

الریح مثقلة هوان (43)

تمضی مع الأبناء والأحفاد

باسم الذین تجندلوا

فی أرض سیناء العجوز

زندٌ سیبرق

کفٌ جیل سوف تلتقف العنان

الاستشراف -  هنا- هو استشراف تفاؤلی ، حاول الشاعر من خلاله استباق الأحداث لاستجلاء صورة الحاضر، الذی یتمثل فی الهزیمة التی لحقت بالعرب فی سیناء ، والنظرة التفاؤلیة المستقبلیة ، التی تحاول أن تستفید من الهزیمة ، فالحرب مع الأعداء لم تنته ، ولن تنتهی ، وأن أولئک الذین قضوا فی سبیل بلادهم قد حملوا شرف الریادة ، لتکون دماؤهم شعلة النور التی سیضیء بها الذین یواصلون الدرب ، فیستفیدون من الهزیمة ، ویجعلونها سبیلاً لمستقبل مشرق  أکثر فخاراً .

     وهکذا جعل تیسیر سبول من الاستشراف متنفساً وبصیص أمل فی الخروج من واقع الهزیمة المظلم  ، ومن خلال هذا الاستشراف یبحث عن الخلاص.فلابد – إذن – من خروج النور الذی سوف ینهی الهزیمة والآلام والأحزان ، ولابد أن ینجلی الظلام، ولذلک جاء المضارع المسبوق بـ ( سین ) التسویف (سیبرق ) والفعل ( یلتفت ) المسبوق بـ ( سوف ) للتأکید والیقین الجازم على أنه ما بعد الشدة إلا الفرج ، وأن الظلم سوف ینقضی بظهور الأمل.

وقول الشاعر : ( 44)

وسنبقى

فی بلادی - حیث عین الطفل والشیخ سواء

دعوة تحیا على وعد انتصار

کلما دقَّ على الأفق شتاء

نتسلى بحکایاک الشجیة ،

ونغنی لانتصار

لم یکن یوماً  ولا یرجى انتصار

تحت عینی شهریار.

     یستحضر الشاعر / السارد المستقبل ، لیعبر من خلاله صراحة عما سیأتی لاحقاً ؛ حیث " یقوم الاستشراف بوظیفة إعلان ، عندما یخبر صراحة عن سلسلة الأحداث التی سیشهدها السرد فی وقت لاحق ؛ حیث ینطلق الشاعر من إحساسه بتناقض المشاعر ، واختلاطها ، ثم لإدراکه الحقیقة  لذا فإنه ، لذا فإنه یعلن  أننا سنبقى ننتظر ، وسنکون کشهر زاد ، التی أفنت عمرها دون انتصار وبذا یعبر الشاعر عن الواقع الحاضر ، فالشاعر یرى المستقبل فی صورة مماثلة للماضی.

     إن الشاعر ینعى فی الاستباق حال الأمة العربیة  ، التی عاشت لیالیها فی خوفٍ دائم ، على وعد الانتصار الذی لن یأتی ، فالأمة العربیة مثل شهر زاد ، التی أفنت عمرها فی خدمة شهریار  ولم تحقق ما أرادت ، وکذا الأمة العربیة ، سوف تنتظر الانتصار ، لکن لن یأتی ، فهو استشراف تشاؤمی.

 

الحــذف :

        یعد الحذف من الآلیات الزمنیة التی تسرِّع السرد ، حیث یقفز السارد بین فترات مختلفة فی طولها وقصرها ، متجاوزاً بذلک أحداثاً ووقائع ، فهنا یسکت السارد عن تناوله الفترة المحذوفة  ویشیر  - أحیاناً- إلى الفترة الزمنیة المحذوفة ؛ کقول السارد : مرت سنة أو مرت عشر سنین  أو مرت أیام ، وهذا ما یعرف بالحذف المعلن فـ " الحذف المعلن یترک جزءاً من القصة  مسکوتاً عنه فی السرد بالکامل ، أو أحیاناً یکون مشاراً إلیه بعبارات زمنیة مثل : مرت أیام عدیدة ، أو بعد سنة أو سنین الخ من العبارات التی تدل على الإلغاء الحکائی. " (45)

ومما یمثل هذا المنحى قصیدة ( لحظات من خشب ) ( 46) ، والتی یقول فیها:

کنت أعلم

أن عیداً بعد عید بعد عید

سوف تأتی

ثم تمضی

وأنا أحرق تبغاً

یذکر الشاعر مدة الحذف المعلن ، فی قوله: ( إن عیداً بعد عید بعد عید )  ،  فیختزل الأعیاد کلها ؛ لیعکس إحساسه بالوحدة والعزلة ، فی مناسبة العید ، التی تجمع الأصدقاء والأحـبة ولتثیر الوحدة مشاعر الحزن والضیق ، بدلاً من الفرحة ، فیعبر الشاعر عن مدى حزنه العمیق  حین یتصور أن الحزن قد انتقل إلى کل ما یجاوره ، وهذا الشعور یشمل کل الأعیاد التی جاءت  ومرت ، والتی سوف تأتی  أیضاً ، وهنا استباق -  أیضاً- واستشراف  لأحداث مستقبلیة.

وقول الشاعر:  ( 47)

نمت والموت سویاً فی فراش

ألف لیلة

غاض فی عینیک ایماض التصبِّی

یختزل الشاعر مدة الحذف المعلن ، وهو ( ألف لیلة ) ، فیختزل تلک اللیالی الألف ، التی عاشتها شهر زاد ، والتی أفنت عمرها فی خدمة شهریار ، آملة أن تتحرر من قیده ، والتی أوحت له بصورة مماثلة ، وهی صورة الأمة الخائفة ، فقد رأى فی قصة شهر زاد ما یفسر مع وضع الأمة العربیة فی الوقت لحاضر ، التی عاشت لیالیها فی خوفٍ دائم ، فیستخدم الشاعر- هنا – الحذف لإسقاط الأحداث التی تضمنتها قصة الألف لیلة ، التی عاشتها شهر زاد ؛ لأنها لا تضیف شیئا جدیداً ، یعمق دلالة الحدث السردی ، فتکرار الأحداث فی الفترة المحددة جعل الشاعر یلجأ إلى الاستغناء عنها.

*****

المبحـــث الرابع

الحــــــوار

    یعد الحوار الدرامی عنصراً محوریاً فی بناء العمل الشعری ذی النزعة السردیة ، وهو تقنیة فنیة متمیزة ، تسهم فی جعل المتلقی یصغی إلى أصداء أفکار الشاعر وإیقاع أحاسیسه ، والحوار حدیث الشخصیة الإنسانیة ، المنبعث من أعماقها ، والمعبر عنها أدق تعبیر ؛ لأن الشخصیة الصامتة تبدو مثل لوحة ساکنة ، ولکن ما إن تتحاور حتى تنبض ملامحها ، وتتحرک الحیاة فیها  حینذاک یتکون الانطباع الأول عنها.

     ویبدو أن الشاعر  تیسیر سبول قد وجد فی أسلوب الحوار بنوعیه : الخارجی والداخلی عوناً له فی بناء خطابه الشعری بناءً سردیاً ، وذلک لأن الحوار " یوضح أبعاد القصة المطروحة ، أو الموضوع المثار ، على نحو یزیده ثراً وتکثیفاً )(48)

وفی دیوان تیسیر سبول سجل الحوار حضوراً مکثفاً ، على النحو الذی تجلى فی کون عددٍ غیر قلیل من قصائد الدیوان قد بنیت برمتها على تقنیة الحوار ، وقد تجلى الحوار الذی اکتسى حضوره فی الخطاب الشعری المعاصر نزعة سردیة ، عبر مستویین اثنین ؛ أحدهما الحوار الخارجی ( الدیالوج ) ، والآخر الحوار الداخلی ( المونولوج ).

 

الحوار الخارجی( الدیالوج ):

         یمثل الحوار الخارجی تقنیة أساسیة من تقنیات البناء السردی لتعویله على تعدد الأصوات والمشاهد التی تکسب النص قیماً موضوعیة، فتعدد الأصوات فی فضاء النص الشعری ، یدخل النص فی حوار یدفعه إزاء التصاعد الدرامی، ویحقق القیم الدلالیة والجمالیة فیه.

ویعرف الحوار الخارجی بأنه " تبادل الکلام بین اثنین أو أکثر ،  أو إنه لحظة تواصل ، حیث یتبادل  ویتعاقب الأشخاص على الإرسال والتلقی . " ( 49).

      ومثال للحوار الخارجی قصیدة ( من مغترب ) (50) ؛ حیث یقیم الشاعر حواراً مع الغجریة ، لینقل ما یمور داخل الذات المؤرقة من أحاسیس وانفعالات ، فالحوار الذی أقامته الذات الشاعرة مع المرأة / الصدیقة ، ما هو إلا حوار مع إیقاع النفس ، فی لحظة تساوى فیها إیقاع النفس / الداخل ، مع إیقاع الخارج ، متمثلاً فی الغجریة لتی یتوحد معها ، ویتخذ منها معادلاً موضوعیاً لنفسه التی رفضت الحیاة .

 

یقول الشاعر:

صدیقتی

تحیة من متعب حزین

تحیة ترعش بالجبین

     للمسة

      لکلمتی عزاء.

صدیقتی

فی المنتأى أغالب العیاء

أنسج فی الصباح من ذکراکِ أمنیة،

أحلم بالمعاد

      إذ یضمنا لقاء

أخاف یا صدیقتی من أوبة المساء

حیث یقیم الشاعر حواراً مع صدیقته ، والشاعر – هنا – لا یتوجه إلى صدیقته بقدر ما یتوجه إلى الذات المتماهیة مع تلک الصدیقة ؛ لینقل ما یمور داخل الذات المؤرقة من أحاسیس وانفعالات ؛ فالحوار الذی أقامه الشاعر مع الصدیقة ما هو إلا حوار مع إیقاع النفس ، فی لحظة تساوى فیها إیقاع النفس / الداخل ، مع إیقاع الخارج ، متمثلاً فی الصدیقة ، الذی یتوحد معها واتخذ  منها الشاعر معادلاً موضوعیاً لنفسه ، التی رفضت الوحدة والوحشة ، والتی تتمثل فی اللیل ، والرغبة فی الخلاص بالصباح ، الذی هو طریق الحلم باللقاء ، واستحضار الذکرى  والأمل المشرق باستعادة الحب ، ولیس الخوف إلا من مجیء اللیل بأحزانه وآلامه .

    وقد تمیز الشاعر - فی هذا النص -  بالمزج بین السردی والشعری ، الذی تجلى فی اختیار الجمل الشعریة الدائریة الغنیة بالإیقاع الموسیقی ، المحمل بشفافیة وجدانیة مؤثرة ، دون أن یخسر الشعر.

      إن حوار الشاعر مع الصدیقة ، على الرغم من انه جاء مباشراً ، فإنه لم ینأى عن التقنیة السردیة  ، وإنما کان قادراً على الإفصاح عما یستأثر باهتمامه ، وما یشغل عالمه، وکان مرتبطاً برؤیته الإنسانیة وتجربته الشعوریة ، فقد جعل من الحوار عصب القصیدة وبؤرتها المحوریة ، التی تتنامى من خلاله وأثراه  یفیض من التدفق والحرارة ، فأصبح یموج بالحیویة والدلالات الخفیة.

       والواقع أن الحوار -  فی هذا المقطع-  وإن اتخذ شکل الحوار الخارجی المباشر فإنه فی حقیقة الأمر لا یعدو أن یکون حواراً  داخلیاً ، تغلغلت المناجاة فی أجزائه .

     ویعود الشاعر مرة أخرى  إلى أسلوب الحوار الخارجی ، فینقل المحاورة فی قوله:

صدیقتی

وتسألین لِمَ أنا حزین ؟

معذرة فأنتِ تسألین

قدیسة لم تعرف الذباب

فی وحشة اغتراب.

      أسهم الحوار – فی هذا المقطع- فی نمو الحرکة الداخلیة للقصیدة ، وکان محوراً أساسیاً فی بنائها السردی ؛ إذ بدأ بالإیقاع مع البنیة الحواریة سریعاً بعض الشیء ، واتسم الخطاب الشعری بالإیجاز والتکثیف ، دون أن یدخل فی الجزئیات والتفاصیل ، ثم یعود الإیقاع مع الوصف السردی إلى الهدوء والسکون والبطء ، ثم ما یلبث النص المؤسس على الحوار أن یعود مرة أخرى إلى التدفق والتسارع ، بفعل انتقال القصیدة إلى جمل تمیل إلى السرعة والتدفق ، لکونها تقوم على عنصر الحدث ، الذی له أسئلة وإجابات ، فضلاً عن أن تناوب الحوار والسرد وتداخلهما فی تشکیل القصیدة ، ینتج عنه  - بلا شک  - تنوع البنیة الإیقاعیة ، فالسارد یستخدم ببراعة تقنیة الروی المحاید ، کأنه خارج الصورة ، یستعید تفاصیلها.

ومن أمثلة الحوار الخارجی   قصیدة ( غجریة ) (51) ، والتی یقول فیها:

أمطرینی

أمطرینی

من سدیم الغیث زخات سخیة

أمطرینی أنتِ مازلتِ غنیة

لم تخونی منحة الشمس

غجریة

ماذا تحمل عینیکِ من الأسرار

ألغاز الحکایا السرمدیة

أنتِ لا تدرین شیئا

       ومن یتأمل البناء الفنی لهذا المقطع یکشف أن الحوار اضطلع بوظیفة تعبیریة موحیة ، إذ أدخل لوناً من الحرکة الداخلیة فی بنیة القصیدة ، وجسد المغزى الکامن فی المقطع ، وأثار فی الذات المتلقیة مشاعر وأحاسیس کان من الصعب إثارتها بدون الحوار ، فالشاعر یضحی بنفسه من اجل حبیبته / الغجریة ، رمز البساطة والطبیعة ، التی لم تزور وجهها ، ولم تزیف شخصیتها ویطلب منها ، ویطلب منها أن تمطر قلبه القاحل ، وتروی ظمأ روحه الجدیبة .

       ولعل فی تکرار فعل الأمر ( أمطرینی) ثلاث مرات ما یؤکد حاجته لتلک المحبوبة ، التی تمثل الفطرة والنقاء  والبراءة ، ویعبر عن لهفته الکبیرة للقرب منها ، والاتصال بها ، ویبقى الشاعر معللاً نفسه بتلک الأمنیات الجمیلة والأحلام السعیدة ، إلى أن یأتی المساء / رمز الحزن وغیومه مثقلة بالنشیج .

 

الحوار الداخلی ( المونولوج):

     فی هذا المستوى من الحوار تنقسم النفس على ذاتها ؛ لتدخل معها فی حوار ، یجسد الحدث  وتعبر به الشخصیة عن أفکارها المکنونة ، دون تقید بالتنظیم ، فخواطر الإنسان لا تقل أهمیة أو دلالة عن کلامه أو أعماله ، وتسجیلها واجب على الفنان ، وهو یسهم فی نمو الحرکة الداخلیة للقصیدة ، ویعطیها بعداً درامیاً مؤثراً .

     والمتفحص لنصوص دیوان تیسیر سبول الشعریة ، یتبین له أن الشاعر قد أکثر من استخدام الحوار الداخلی فی بنائه السردی ؛ لوعیه بحقیقته ، ولإدراکه بقوته الدافعة لآلیة السرد ، ویتبدى ذلک فی عدد من القصائد ، التی بنیت على تقنیة الحوار الداخلی.

     ومن صور الحوار الداخلی الذی عبر الشاعر فیه عن غربته النفسیة ، وما تولد منها من ضیق وسأم ، تجلى فی طرح عدد من الأسئلة على الذات الشاعرة ، حیث یحاور نفسه ، متکئاً فی ذلک على تقنیة (الحلم) ، بحسبانه منبعاً للصور الشعریة ، فجاء التعبیر عن المغزى الکامن وراء هذه الأسطر على شکل حوار داخلی ، نابع من أعماق الراوی ، فالحوار الداخلی یعد  البوتقة التی یحدث فی داخلها ذلک التفاعل بین الحیاة والحقائق السائدة ، حیث یتم النظر إلى الحیاة ، ومحاولة تحدید أبعادها ، أو حتى تشویهها ، عن طریق وجهة نظر شخص معین ، فی زمان ومکان معینین .

یقول الشاعر فی قصیدة ( الحلم )(52) :

وکنتِ معبقة بالبهار

تراخى بهارک

حوًم

حطّ

وأنشب فی عصبی قسوته

کأنکِ  حین خطرتِ إلی

وطئت أدیمی

------------------

رأیتک تنأین عنی

وعیناکِ  ما زالتا تومئان إلیا

نأیت

نأیت

تحولت أفقاً بعیداً

وکنت مسجى

وکنت وحیداً

صباحاً  خرجت

التقیت بوجه المدینة

رأیت إلى الشمس تضحک فی الأفق

لکن نفسی کانت حزینة

رویداً  أسیر

ویطبق – فیما أسیر _ علی الزحام

  تهجس القصیدة بأن الذات الشاعرة اعتمدت الحوار الداخلی لما وجدت نفسها أسیرة الذکریات ، فکان الحوار مع النفس مخرجاً لأزمتها النفسیة ، وأداة للانفصال عن معاناة التمزق النفسی والفکری ، إذ أعادت الذات الشاعرة تشکیل الحادثة ، وصوغها من جدید ، مستلهمة مادتها من مخزون ذاکرتها الشخصیة ، ومن واقع الحیاة الیومیة ، وهذا المنحى یومئ إلى إشکالیة مهمة فی تشکیل السیرة الذاتیة ، تتمثل فی علاقة المرء بماضیه ، فاستعادة ذکریاتها عملیة صعبة  واستعادة اللحظة الزمنیة عملیة مستحیلة ؛ لذا تغدو کتابة السیرة تعویضاً عن زمن هارب .

ومن الحوار الداخلی- أیضاً-  قصیدة ( لحظات من خشب ) ( 53) التی یقول فیها:

أنا والمذیاع  واللیلة عید

والمغنی یمضغ الفرحة

فی مطٍ بلید

ولفافاتی استقرت

حثیثاً بین الرماد

کنت أشتاق لو أن التبغ فی صدری

ذو طعمٍ ولو کان مریر

کنت أشتاق لو أنی

لی بهذا العید أفراح صغیر ،

لو أنی

لی به فجعان مأتم

إن هذه  المقطوعة تستخدم الحوار الداخلی وسیلة من وسائل التعبیر ، لتنقل لنا قصة واقعیة من الحیاة ، فیها تصویر للصراع والتأزم ، الذین یمر بهما الشاعر ، عارضة الموقف من خلال التناقض وتجسید المحسوس ، وتشخیص الجمادات.

     والموقف الذی یرید الشاعر التعبیر عنه أنه یعیش وحیداً ، دون أن یجد مؤنساً ، یشارکه أفراحه أو أحزانه ، ولکن الشاعر لا یعبر لنا عن هذا الموقف تعبیراً مباشراً، بل یلجأ إلى تلوین الموقف ، وإعطائه هذه القیمة الدرامیة ؛ لیخلق التوتر فی نفس المتلقی / القاریء ،الذی یبقى مشارکاً الشاعر فی حواره الداخلی.

       ونلمح صوراً عدیدة من صور التوتر الناجم  عن الشعور بالتناقض ، ونشعر بحرارته ، من خلال تحدید الشاعر للإطار الزمنی ( اللیلة عید ) ؛ فلیلة العید مناسبة سارة ، لکن الشاعر الذی یبدأ بقوله ( أنا والمذیاع ) یوحی لنا بسیطرة الوحدة والعزلة علیه ، فی مناسبة العید ، التی تجمع الأصدقاء والأحبة ، ولتثیر الوحدة مشاعر الحزن والضیق ، بدلاً من الفرحة ، فیعبر الشاعر عن مدى حزته العمیق ، حیث یتصور أن الحزن قد انتقل إلى کل ما یجاوره، فیبدو المغنی حزیناً ، ( یمضغ الفرحة فی مط بید ) ، فالمغنی یبدو عنده غیر صادق ، وإن کانت کلماته توحی بالفرحة بمقدم العید ، وبذلک فإن غناء المغنی أصبح صورة من صور التناقض ، بین الکلمة والحقیقة.

 

        وتمتد الوحدة والموت إلى کل شیء ، حتى یرى الشاعر لفافات التبغ جثثا بین الرماد  وهذه الصورة إنما هی تجسید للتلاحم القائم بین الفکر والشعور ، ویستثیر هذا الموقف موقفاً آخر

( کنت أشتاق لو أنی لی بهذا العید أفراح صغیر- لی به فجعان مأتم )  ، واستخدام الشاعر الفعل الماضی الناقص ( کنت ) ، ثم لحرف التمنی ( لو )  یدل على إحساسه باستحالة تحقق أمله ، فهذا العید  قد أقبل  ، والشاعر وحید ، لا یجد الخلاص ، ولن یجده ، وهذا هو سر الحزن فی نفسه .

کنت أعلم أن

أن عیداً بعد عید بعد عید

سوف تأتی

ثم تمضی

وأنا أحرق تبغاً

وبقایا ذکریات

     والشاعر یحاور نفسه ، ویشعر أن ثمة إحساساً حزیناً ، یطغى على المشهد ، ویزید من توتره وتصاعده ، وتجلى فی بنیة الخطاب الشعری المزج الموفق بین البنیة السردیة وجمالیات الشعریة  لتکوین بناء فنی متماسک التشکیل ، متکامل النسیج ، وقد برع الشاعر رغم سهولة التراکیب وسلامة الأداء فی إحداث الأثر المعنوی  وعیاً وتثقیفاً ، والأثر الجمالی  إقناعاً وطرافة.

      وقد أوحى الحوار الداخلی فی هذه القصیدة بحدیث متفرد ، صاغه الشاعر ، لتبرز من خلاله هواجس الشخصیة وخواطرها ، ولتعبر عن تجاربها وخواطرها بصورة أکثر حضوراً وتأثیراً فی وجدان الذات المتلقیة الأمر الذی جعل الحوار یؤدی دوراً بنائیاً مهماً ، مع بقیة المکونات السردیة فی نقل تجربة الشاعر ورؤیته لواقعه الذی یطرحه.

    وقد عکس هذا الحوار تداخلاً بین السرد والحوار الداخلی والحوار الخارجی ، إذ جسد تنوع الأصوات وتعددها وتداخلها صوت الراوی وصوت المغنی ، وهکذا تجلت وظیفة الحوار الداخلی فی رسم أبعاد شخصیة الشاعر ، بحیث تناسق الحوار مع الحالة النفسیة لتلک الشخصیة ، وما تشعر به من خوف وقلق وحزن .

      وهکذا نجد أن الحــوار بنوعیه / الخارجی والداخلی فی نصوص تیسیر سبول السردیة لم یکن منفصلاً عن سائر تقنیات البناء السردی ؛ کالارتداد والاستباق ، وإنما کان هناک تداخل بین هذه الأسالیب جمیعها ، حیث أدى الحوار دوراً مسانداً إلى جانب تلک التقنیات ، فی إقامة  البناء

السردی فی الدیوان ، وذلک من خلال ما کشفت عنه تلک الحوارات من رؤى مختلفة ، أضفت على البناء السردی مزیداً من التنوع والحرکة ، ومزیداً من العمـق فی إقامة العالم الواقعی فی هذا

الدیوان ، والحوار بوصفه أداة فنیة کان طیعا بید الشاعر ، حمل مواقفه وثقافته وأفکاره ومعتقداته وأخیلته ، إلى جانب کونه یثری التجربة ، ویمنحها أبعاداً جدیدة ، ویکشف عن نفسیة الشخصیات وطباعها وملامحها.

*****

 

المبحـــث الخامس

الشخصیـــات

       الشخصیات من العناصر الرئیسیة التی یبنی علیها السارد عالمه ، فالسارد "یتماهى بالشخوص ، ویبرز أصواتها ، بإعادة إنتاج أقوالها ، بحسب أنماط سردیة مختلفة ، وتبقى النظریات المجردة مفیدة فی تأسیس مفاتیح ، وإیجاد اللغة المشترکة ، ویبقى التطبیق هو الأصعب ، إنه الفعل الأکثر تعقیداً ، وهو النشاط الذی یعرف بالقفز على التفاصیل ، أو الإشکالات الصغیرة، مع الاتکاء على رؤى کلیة ، تعزز الخطوات الثابتة والمنهجیة " (54) ، " فالشــــخصیة الروائیة یتجاذبانها قطبان وجودیان؛ هما الوعی المتراکم ، داخل شرایین الذاکرة ، و( الأنا ) وثانیهما الإصرار على خرق جدار رتابة الواقع ونمطیته ، وأن السرد هو الممون الرئیسی لحرکیة الحدث الوجودی ، أو هو المبرر الفعال للهم الوجودی ، المشترک بین الشخصیة الروائیة والذات الوطنیة . " (55)

     و" بناء الشخصیة ومثولها أمام المتلقی ککیان متکامل هو بناء ثقافی ، فالمتلقی لا یستطیع إدراک هذه الشخصیة ومعرفة أسرارها ، إلا من خلال المخزون الثقافی المشترک ، بین محفل الإبداع ومحفل المتلقی. " (56)

      وقد زخرت قصائد الدیوان بعدد من الشخصیات السردیة ، فثمة شخصیات عائلـــیة ( الأب- الأخ ) ، وثمة شخصیات تراثیة أدبیة وتاریخیة، وهناک شخصیات أخرى ،، ابتدع الشاعر أبعادها وملامحها ، من خلال التجربة الذاتیة ورؤیته الإنسانیة.

    وبالرغم من أن هذه الشخصیات قد تداخلت مع غیرها ، وتشابکت ، فی علاقات متنوعة  فإنها ظلت تحتفظ بملامح وسمات وأفعال خاصة ، ضمن المنظومة السردیة المتعارف علیها فی الفن السردی، ولکن کیف صاغ الشاعر هذه الشخصیات فی قوالب سردیة ؟ للإجابة عن هذا السؤال یجدر الوقوف عند أبرز ملامح تلک الشخصیات وأبعادها.

ومن الشخصیات التی برزت فی الدیوان شخصیة ( الأب ) ،  فی قصیدة  ( مرثیة الشیخ )؛ التی   یقول  فیها (57)

ربما قبل عصور

کان هذا الهیکل الیابس یوماً

سندیانة

شمطت تستشرف الودیان

------

هی ذی الآن تهاوت

بعد أن برّحها طول اعتوار

من شموسٍ وصقیع

یعلن الشاعر فی أبیات حزنه الذی تعمق فی نفسه ، بسبب موت والده ، فیتوجع على رحیله ویذرف الدموع الغزار ، ویصرخ ( وافجیعتاه ) على ذلک السیف الذی کان ظامئ الشفرة  أبیض ، وأصبح نصلاً ملویاً ، ثلمته الحدثان ، وعلى ذلک الهیکل الذی کان کالسندیانة، فی شموخها وعنفوانها وامتدادها ، ولکنه الیوم تهاوى ، وجفت أغصانه ویبست جذوره بفعل الزمان.

   والهیکل الیابس هو الشیخ .من نفس أرومة السندیانة ، والشیخ سلیل السندیانة ، والسندیانة کانت تعیش فی عزة وقوة ، رمزاً لشموخ العربی ، والشیخ هو من سلالتها رمز للإنسان العربی  الضاربة جذوره فی أعماق التاریخ.

ثم یقول:

 

أی سرٍ سحیق

أنت والکبریاء

آن أن ترحلا

فالمسا ینتظر والشجر

مد أیدبه عاشقاً

سائلاً أن تعود

لنسوغ الجدود

حیث یرى الشاعر أن الشیخ لم یمت ، وأنه فی غفوة  ، وهذه الغفوة أشبه بالموت ، وإغفاءة لشیخ تعنی أن هنالک وقتاً للاستیقاظ  ، واستیقاظه یکون بالعودة إلى  نسغ الجدود ،  لذا یجب أن یتسلح بالمجد الغابر والکرامة العربیة ، فهما السبیل للعودة للحیاة.

        ومن الشخصیات التی برزت فی شعر تیسیر سبول شخصیة  أخیه شوکت ( نسره الغائب) ، کما یقول ؛ حیث أسر ، وأبعد عنه ، بسبب آرائه السیاسیة.

یقول الشاعر : (58)

 یا نسری  ، آه یا نسری

فی أسرک مثلی فی أسری

لو أغنیة

عبر الأبعاد المرمیة

تأتیک تقول بعادک طال

لکن هیهات

یبست فی حلقی الکلمات

لو نظرة عین منک ترانی

سترى کم صرت أعانی

قلبی

عینی

کل عروقی ، تصرخ ( ماء)

والماء مع النسر الغائب

والنسر یغالب فی الصحراء

یبکی الشاعر فی الأبیات السابقة أخاه / النسر ، الذی غاصت فی الصحراء مخالبه ، وعریت عروقه ، وکسرت جناحه ، ولکنه ظل قویاً ، مصراً على مبادئه ، ورافضاً للظلم ، وقد أحس الشاعر بغیابه بفقدان توازنه وقوته ، وشعر بالظمأ الشدید ، والحاجة الملحة للماء ، فهو یشبهه بالماء / رمز الحیاة ، وبدونه تصبح  حیاته جدباء کالصحراء .

    ومن الشخصیات التی برزت- أیضاً- فی شعر تیسیر سبول شخصیة ( الغجریة ) ؛ حیث وردت فی قصیدة ( غجریة ) (59)، والتی عدها الشاعر رمزاً للمرأة اللعوب .

یقول الشاعر:

غجریة

قدم تضرب صدر الأرض تعلو

وتدق الأرض دقاً

زوبعات من غبار

 ودوار

 أمطرینی

أمطرینی

من سدیم الغیث زخاتٍ سخیة

ألصقینی بالتراب

       حیث یهرب الشاعر إلى هذه الغجریة ، من دنیا الواقع النفسی  ، إلى عالم وهمی ، وهی رحلة رمزیة إلى الحیاة الفطریة ، الخالیة من الآثام والمفاسد ، وهی فرار من برودة الحزن ، إلى دفء العاطفة ، وتکمن هنا المفارقة ؛ حیث یقف أمام ما هرب منه ، فتتجسد أمامه معاناته ، وقد عبر عن ذلک بقوله : ( قدم تضرب صدر الأرض ، تعلو وتدق الأرض دقا ) .إنها قدم الاستعباد والحریة المصادرة ، القدم التی هرب منها ، یجدها أمامه ، فی صورة هذه المرأة ، لقد خرج الشاعر باحثاً عما یبعده عن الحیاة التی یعیش ، فکانت النتیجة أنه عاد بخیبة أمل ، حینما وجد نفسه فی صورة تعکس واقعه.

وقد وقع الشاعر فی مفارقة ؛ فالغجریة التی لجأ إلیها الشاعر اختارها رمزاً للنقاء والطهر والبراءة وأصبح اللجوء إلیها نزوعاً نحو البساطة والفطرة والنقاء.

     أمطرینی أنتِ مازلتِ غنیة

لم یلطخ شفتیک الطین

بنیاً وأحمر

لم تخومی منحة الشمس

فهذا الوجه أسمر

ما کسته حلل الوجه المزور

لکن فی قصیدة ( عودة إلى الرفاق المتعبین ) (60) یستخدم الشاعر الغجریة رمزاً للتعبیر عن النقاء الأنثوی والبساطة ، وفی سبیل البحث عن الحب الصادق والنقاء الفطری یلجأ إلیها.

یقول الشاعر:

غجریة

یالهاث الرمل ، یاإنسانی الضائع

فی أصداء موال حزین

فأعیدی کلَّ ما کان

ولا تقسی على جساس من أجل خیانة

کلنا کان نخون

ثم تتحول الرؤیة من جدید ، وتنتهی إلى ما انتهت إلیه المحاولات السابقة.

غجریة

کذب : من قال فی عینیکِ أسرارٌ خفیة

مثلما تسعى على الأرض الدیادین الغبیة

أنتِ تسعین

خواء ملء عینیکِ بلاهة

وعناء مطبق یقعی وسقم وتفاهة

ویکون لجوء الشاعر إلى الحب / الغجریة هو طریق الخلاص والنجاة من الواقع الذی یعیش فیه لکن الحب یخفق فی تخفیف الحزن ، وإخراجه من الألم وتحقیق الخلاص.

   کما ظهرت شخصیة المرأة رمزاً للأرض التی تتجسد أماً رءوما حانیة على أبنائها ، حاضنه لهم  ومهدهدة لآلامهم وأوجاعهم ، أو حبیبة وعشیقة ، یخاطب الشاعر من خلالها أهله ووطنه وتاریخه  وهی کل ما یمثله الموطن من أهل وعشیرة ، وحنینه إلیها هو حنینه إلى بلده ، ویبدو ذلک فی قصیدة (تحیة من مغترب) (من مغترب) (61)

صدیقتی

تحیة من متعب حزین

تحیة ترعش بالحنین

للمسة

         لکلمتی عزاء

صدیقتی

فی المنتأى أغالب العیاء

أنسج فی الصباح من ذکراکِ أمنیة،

أحلم بالمعاد

          إذ یضمنا لقاء

  ومن الشخصیات التراثیة التی وردت فی شعر تیسیر سبول شخصیة شهــرزاد ، فی قصـیدة ( ما لم یقل على شهر زاد )(62).

یقول الشاعر:

شهر زاد

 لِمَ أسرت بی حکایاکِ إلى أمسٍ دفین

 عبر سرداب من الأوهام یفضی لیقین

 فإذا بی مثقلٌ أحمل فی جنبی سرا

 لیس یدری

عن خفیات لیالیکِ الطویلة.

یرى الشاعر أن هذه المرأة / شهر زاد لیست کما کان یُظن ، إنها لیست تلک المرأة القویة ، التی تصدت للظلم والجبروت ، المتمثل بشهریار ، بل هی امرأة أفنت عمرها فی خدمته ،  آمـلة أن تحرر من قیده ، فیما کانت عیون الأطفال والشیوخ دعوة تحیا على وعد انتصار ، إن صورة هذه المرأة الخافقة أوحت للشاعر بصورة مماثلة ، هی صورة الأمة الخافقة ، لقد رأى فی قصـة شهریار ما یتشابه مع حال الأمة العربیة ، التی عاشت لیالیها الطوال فی خوفٍ دائم .

ألف لیلة

کل لیلة

حلمک الأوحد أن تبقی للیلة.

فإذا ما الدیک صاح

معلناً للکون میلاد صباح

نمتِ والموت سویاً  فی فراش

شهر زادی

خدعة ضللت الآذان عمراً

ورست فی خاطر التاریخ دهراً

کما یستخدم الشاعر من الشخصیات التراثیة قیس بن الملوح ولیلى العامریة ، رمزاً للتعبیر عن الحب العذری النقی الصادق  ، فی قصیدة ( المستحیل ) ( 63) ، التی بقول غیها:

لا وعمق السرً فی عینیکِ ما کان غراما

وانکفاءاتی ونزفی وأناشیدی الیتامى

لم تکن صرخة قیس خلف لیلى

ففؤادی لم یعد للحب أهلا.

حیث یفشل الشاعر فی إقامة علاقة الحب بینه وبین المحبوبة ، فیزداد شعوره العمیق بالشک والمرارة ، ویتحول الحب الجارف ، الذی کان یحمله ، إلى عداء لما یجسد هذا الحب / المرأة   فیهجره ویجر معه الحیاة ، ثم ینکفئ على ذاته ، متخلیاً عن آمال الحب وأحلامه ، ویعلن أنه لم یعد أهلاً للحب ، بعد أن لاقى الأسى والألم ، مما جره إلیه فؤاده.

      ولکننا لا نفهم کیف لا یکون غراماً وحباً ذلک الذی دفع الشاعر للانکفاءات والنزف والعذاب  والحقیقة أن ذلک هو الثمن الذی دفعه فی بحثه عن الحب النقی ، ولذا فإننا نجد أن الحب عنده یتحول إلى فکرة رمزیة ، تمثل طریقاً ، وهذه هی النهایة الحتمیة لکل من یسلک دروبه.

حینما انسلت إلیه خلسة إحدى اللیالی

رغبة غامضة ألقته فی مدّ المحال

أن یطول العمرا

وبکى مذ شعرا

أن سیبقى أبداً فی أسر صدری

بعدها لوَّن بالمأساة عمری.

الخاتمــــــة:

      وبعد فإن البناء السردی فی دیوان ( تیسیر سبول ) مثل إحدى البنى الأساسیة فی تشکیل نصوصه الشعریة ، وأن خطابه الشعری اتسم بنَفَس سردی ، تبدت عناصر السرد وتقنیاته بشکل  واضح وجلی ،فضلاً عن إفادته من توظیف التقنیات السردیة ؛ من مفارقة واستهلال وختام سردیین ، وتکرار وتناص ، وتنویع فی استخدام ضمائر السرد، وغـــیرها ،  وأن الشاعر ( تیسیر سبول) استطاع أن یغنی الجانب السردی فی دیوانه ، من خلال الإفادة من العناصر السردیة الأساسیة: (الحبکة - والمکان- والزمان – والحوار – والشخصیات ) ، وقد وفق الشاعر  فی تحقیق عنصر التشابک  والتمازج  الشعری التأملی والسردی ، إلى درجة یصعب فیها فصم جزأیهما ، بعضهما عن الآخر.

    وأظهرت الدراسة – أیضاً – أن البناء السردی   فی دیوانه تمثل انعکاساً لرؤیة الشاعر  وتفصح عما یختلج فیها من رؤى إنسانیة ، وتجارب شعوریة ، وأن قصائد الدیوان تحتوی فی مجملها على بناء سردی ، تدور أحداثه حول سیرة الشاعر الذاتیة ، وسیرة شعبه ووطنه، وأنها نهلت من معین السیرة الذاتیة لشاعر مبدع ومثقف ، مشهود له بقراءاته الواسعة ، وتمثله للتراث الإبداعی للإنسان العربی ، ونهلت – أیضاً – من معین سیرة شعبه ووطنه.

    والأشکال السردیة فی شعر تیسیر سبول هی عنصر بناء أساس ،  تتشکل من خلالها رؤیته  فیمارس من خلال استخدامه لضمیر ( الأنا ) لعبة فنیة ، تسمح له بالحضور القوی فی قلب الأحداث ، ویقدم ضمیر المتکلم فی شعره دوراً حیویاً فی دعم النسیج السردی المتکامـل ویکشف العوامل النفسیة والداخلیة ، التی تکمن فی الأحداث ، کما یستحضر أسلوب التناص لیعبر عن مواقفه ورؤاه، ویستخدم الفعل المضارع ؛ للدلالة على توحد التجربة واستمراریتها.

     

     کما یعکس المکان فی شعر تیسیر سبول انعدام الثقة والطمأنینة حتى بالأشیاء التی توحی بالخیر . أما الزمن عند تیسیر سبول  فیشیر من خلاله إلى زمن الهزائم العربیة، فیعود فی الاسترجاع إلى الماضی لیستلهم زمن المجد والانتصار، کما یشیر إلى الماضی لیعید إلى الذاکرة العربیة الآلام والأحزان التی لا تزال محفورة فی الذاکرة، أما الاستباق فیرى من خلاله الثورة التی سوف تأتی لتزیل فی طریقها مظاهر الظلم والاستبداد، ویعقد الأمل بالنصر على المخّلص والمنقذ الذی یأمل بقدومه فی زمن ما لیحرر الأرض والإنسان.

        والحوار بوصفه أداة فنیة کان طیعا بید الشاعر ، حمل مواقفه وثقافته وأفکاره ومعتقداته وأخیلته ، إلى جانب کونه یثری التجربة ، ویمنحها أبعاداً جدیدة ، ویکشف عن نفسیة الشخصیات وطباعها وملامحها. والشخصیات التی تناولها تیسیر سبول حاول من خلالها تصویر إیقاع العذاب النفسی الذی یحمله الإنسان العربی، فهو إما إنسان یهرب من الواقع ، أو یواجه الواقع بالثورة والإرادة .

الملخص

         تسعى هذه الدراسة إلى الوقوف على البناء السردی فی الخطاب الشعری عند تیسیر سبول ، وإبراز هذا البناء فی شعره ، والذی حقق قدراً عالیاً من العمق الفنی ، وأسهم فی خدمة التجربة الشعریة ، کما تسعى إلى إلقاء الضوء على الشاعر فی النص الشعری ، الذی أصبح سارداً وشاعراً فی الوقت نفسه یستغل المکان والزمان والشخوص ؛ للتعبیر عن آرائه ومواقفه ، وعن واقعه الذی یعیشه، فکان للمکان الحضور البارز فی شعره ، کما حاول الشاعر من خلال الزمن أن یعود إلى الماضی ، فی أغلب قصائده ، لیسترجع زمن الانتصارات العربیة ، ویقابلها بزمن الهزائم الحاضر. وبناء على ما تقدم تحاول هذه الدراسة إضاءة البناء السردی فی شعره ، وکشف ملامح التأثیر الذی أغنى النصوص الشعریة ، وما أضافه هذا البناء من مزایا جمالیة وفنیة .

 

 

 

 

 

 

Abstract

The present study  is an attempt to examine the narrative structure in the poetic discourse for ‘Taiseer Isbool’ as well as to highlight this structure in his poetry, which achieved a great deal of artistic depth  and participated in developing the poetic experience.

 

The study also attempts to highlight the poet himself in the poetic text, who became such a narrator and a poet at the same time, who already uses place, time and persons to express his opinions and  attitudes as well as his current reality. Therefore, the ‘place’ has its clear presence in his poetry. The poet also tried to look back for the past through time in most of his poems, in order to evoke the time of Arabian victories in contrast to the defeats of current time.

 

Accordingly, the study attempts to highlight the narrative structure in his poetry and to detect the impact factors which enriched the poetic texts as well as the aesthetic and artistic advantages added by such structure.

 

 

 

البناء السردی فی الخطاب الشعری عند ( تیسیر سبول )

تمهیــــد

تعریف السرد:

        السرد لغة هو تقدمة شیء إلى شیء تأتی به متسقاً بعضه فی إثر بعض (1) ، والسرد ضمک الشیء بعضه إلى بعض ، نحو انتظم وما أشبهه ، ومنه قولهم : سرد الدِّرع ، أی ضم حدید بعضها إلى بعض.

       والسرد : الثقب والمسرودة الدرع المثقوبة ، والسرد اسم جامع للدروع وسائر الحلق  وفلان یسرد الحدیث سرداً ، إذا کان جید السـیاق له ، وسردت الصوم أی تابعته ، وقیل لأعرابی : أتعرف الأشهر الحرم ؟ فقال : نعم ، ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، فالسرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، والفرد رجب ، والسرندی الشدید ، والأنثى سرنداة . (2)

   و مصطلح السرد  أو السردیة من المصطلحات التی دخلت دائرة التوظیف النقدی تحت تأثیر البنیویة ، هدفه توفیر الوصف المنهجی للخصائص التفاضلیة للنصوص السردیة ، لیشمل الجوانب النظریة والتطبیقیة فی دراسة منهجیة للسرد وبنیته.

       بدأ علم السرد بالشکلانیین الروس ، وبالتحدید ( فلادیمیر برب) ( 1928- 1968) فی عمله الموسوم ( مورفولوجیا الخرافة ) الذی یحلل فیه تراکیب القصص إلى أجـزاء ووظائف  و( الوظیفة ) عنده هی( عمل ) الشخصیة ، وقد حصر الوظائف فی 31 وظیفة فی جمیع القصص.(3)

   وصاغ ( تودوروف) مصطلح علم السرد لأول مرة عام 1969م فی ( قواعد الدیکامیرون ) وعرفه بـ ( علم القصة ) ، وأنتجت الأیام المشرقة للنظریة البنیویة فی الأدب بعض الأعمال الرائعة فی محاولة تحویل علم السرد إلى مشروع علمی ، نذکر منها على سبیل المثال لا الحصر نحو القصة لتودوروف وبارت ، وغریماس ، وعلم السرد المرتکز على الخطاب لجینیت جیرار وستانزل.

    وأصبح السرد فیما بعد مادة لکثیر من الأطروحات ،  خارج حقل الدراسات الأدبیة ؛ إذ بدأ العلماء ینظرون لوظیفة السرد فی کتابة التاریخ والدین والصحافة والممارسة القانونیة ، والتربیة والسیاسة ، لدرجة أن معظم المنشورات عن موضوع السرد فی هذه الأیام تبدأ بعبارة السرد مثل ( السرد فی کل مکان ) ، أو ( القصص فی کل مکان حولنا ) .

وبالنظر إلى حقیقة أن معظمها یتفق على أن الواقع کما نعرفه لیس مدرک بالحواس ، بل إنه بناء ذاتی ، یبدو أن السرد فی کل مکان حولنا ؛ لأن بناء التمثیلات السردیة هو أحد الوسائل التی تعطی بها شکلاً ومعنى للواقع الذی ندرکه، السرد هو بعبارة أخرى طریقة أساسیة للتفکیر أو أداة معرفة . (4)

حدود السرد وحدود الشعر:

      إن لغة السرد هی لغة التواصل ونقل الفکر ووسیلة لتصویر الواقع والتعبیر عنه ، وهی بذلک تجد تبریرها خارجها ، أما اللغة الشعریة فتجد تبریرها فی ذاتها ، فلم تعد وسیلة أو أداة تواصل ، وإنما هی مستقلة أو ذاتیة الغائیة ، ولعل هذا التصویر هو جوهر تفکیر الشکلانیین الروس فی إطار معالجتهم للأدب ولغة الشعر ، وکان مؤلفا نظریة الأدب قد صاغا تعریفاً لوظیفة الشعر بقولهما: " إن للشعر عدة وظائف ممکنة ، إن وظیفته الأولى والرئیسة هی أن یکون أمیناً لطبیعته." (5)

   وعلى هذا النحو فالحدود تکاد تبدو فاصلة بین المحکی والقصیدة فی إطارها النظری ، ولکن على المستوى تأمل النصوص الشعریة التی تمزج داخل کونها مکونات وسمات تنتمی إلى أنواع وأنماط ومصادر ومذاهب متعددة ، یبدو الأمر مخالفاً ، إذ تصبح القصیدة ملتقى لغتین إحداهما سردیة ، وأخرى شعریة.

     لقــــد أفادت القصیدة الحدیثة من الفنون العدیدة ، وقد أضحت معاصرة ، بکل ما تحمل هذه الکلمة من معنى ، وهی ترتبط ارتباطاً وثیقاً بالروایة والقصة ، ویمثل هذا لارتباط استخدام القصیدة للمقومات ، وللآلیات الموجودة أصلـاً بشکل طبیعی فی الروایة والقصــة  " فتشتبک الروایة من جهة أخرى مع القصیدة ، ومع سواها من فنون القول ، فی أن کلاً منها مجرد کینونة لغویة ، وهذا ما خاضت فیه بحوث مختلفة فی إطار الشعر والشعریة ، ففی هذا السیاق تذکر ( کونراد ) أن الشعر" هو العالم وقد تحول إلى اللغة " (6) ، وما ینطبق على القصیدة ینطبق على الروایة ، بهذا الخصوص ، ولکن الروایة تظل تفترق عن القصیدة بنزوعها السردی ، والابتعاد عن الغنائیة ، وعن الإسراف فی التکثیف" (7)

    کما أن الشعر – ولاسیما الشعر العربی الحدیث- قد امتاز ببنائه السردی ، بل إن السرد أصبح میزة هذا الشعر ، ولکن هذا البناء لم یأتِ مقحماً أو متکلفاً ، ولکنه أتى عفویاً ، فأکسب هذا الشعر بعداً جمالیاً ، وعند المقارنة ما بین السرد فی القصة أو الروایة ، وما بین السرد فی الشعر العربی الحدیث ، نجد أنه لا قصة أو روایة تخلو تماماً من تقنیات أو آلیات سردیة ، فیما یأتی

البعد السردی فی الشعر العربی الحدیث بوصفه تقنیة مساعدة  ، تضاف إلى السمات الشعریة المعروفة فی القصیدة ، مثلها مثل الإیقاع والصورة والترمیز والتکثیف والإیماء والغموض والفضاء البصری ، مما یثری النص الشعری ، ویلبسه ثوباً جدیداً.

 

السرد فی شعر تیسیر سبول:

     لقد تضمنت معظم فصائد تیسیر سبول الأشکال السردیة المختلفة ، ولعل سبب هذا النزوع هو اتجاه الشعر العربی الحدیث برمته إلى استخدام هذه التقنیة ، فمجمل الشعراء المعاصرین قد انتهجوا هذا النهج ؛ لکون اللجوء إلى هذا یعزز ویغنی الرؤى والتجربة الشعریة ، کما یمکن الشاعر من التعبیر عن رؤاه بطرق عدیدة ، بعیداً عن الضوابط الشعریة الصارمة ، التی تحد نوعاً ما من التعبیر الذی تحکمه الکلمات والأوزان ، فتتیح الأشکال السردیة المختلفة طرقاً جدیدة للشاعر ؛ لکسر هذه الضوابط ، کما تفتح آفاقاً واسعة لمنظور جدید للشعر العربی المعاصر.

     إن القصیدة الحدیثة لم تعد مقتصرة على صوت واحد ، وهو صوت الشاعر ، وإنما أصبحت تحمل نظاماً قصصیاً یصوغه الشاعر السارد إلى أحداث تحمل أبعاداً دلالیة مختلفة ، تثیر الانفعالات والمشاعر الإنسانیة.

     وتأتی أهمیة السرد فی الشعر الحدیث من خلال إکسابه المزایا السردیة المختلفة ، عندئذٍ یؤدی الشعر وظائف دلالیة وجمالیة ؛ إذ تظهر القصیدة الحدیثة بحلة جدیدة غنیة المضمون ؛ " فبنیة القصیدة الحدیثة التی استعارت بعض حروف هذه البنیة من أشعار العالم وأفکاره ، ومن تطورات الأجناس الأدبیة وتفرعاتها ، ومن خصوصیة التجربة للشاعر والمجتمع وللتراث ، وأصبح بنیة مرکبة ومعقدة ، تتداخل فیها الاستعارة بالمجاز ، والرمز بالواقع ، والفردیة بالاجتماعیة، والواقعیة بالسحر ، والواقع التاریخی  بالمثولوجیا ، والتجربة الشخصیة بالتجربة العالمیة ، فأصبح صوت الشاعر عاماً ، بالرغم من انه محلی الکلام والصورة . " (8)

     إن إفادة الشعر الحدیث من السرد القصصی والروائی قد أضفت علیه سمة الحداثة ، والتحرر من الصیغة التقلیدیة ، کما أنها قد کشفت عن العلاقات الدقیقة بین الإنسان ومحیطه، وأکسبت الکلمة الشعریة أبعاداً دلالیة غنیة. ومن القضایا السردیة فی شعر تیسیر ســـبول التی سنتناولها : الحبکة والمکان السردی والزمن السردی والحوار والشخوص.

 

 

 

المبحث الأول

الحبکـــة

       تعد الحبکة رکیزة أساسیة من رکائز السرد الحدیث ، فهی طریقة ترتیب السارد للأحداث  وتضم الطریقة التی یقدم بها السارد کلاً من الزمان والمکان والشخوص والأحداث بمجمـلها  فهی النسیج المتکامل الذی ینسجه ، ویحبکه السارد بدقة ودرایة ، وفی الشعر العربی الحدیث تحظى الحبکة بوجود واسع ، وذلک نتیجة تأثر الشعر العربی الحدیث بفن القصـة والروایة  فالحبکة التی یحبکها الروائی فی روایته والقاص فی قصته قد أصبحت مهارة یقتفیها الشاعر المحدث  ویستخدمها .

   وعندما نتحدث عن نسیج السارد لحبکته ، فإننا نتحدث عن بنائه للأحداث ، و" فی الحقیقة لیس هناک معیار أو شکل معین لبناء الحدث... فالکاتب له مطلق الحریة فی اختیار اللحظة التی یبدأ منها . " (9)، فالحبکة تتکون من أحداث ، وهذه الأحداث تضم فی طیها الحدث الزمانی والحدث المکانی ، وحرکة الشخوص  ،  حیث یعرض الحدث عن طریق الحوار بین شخصین أو أکثر ، یهدف به – الحوار- بحث فکرة ما ، بالتدرج والتصعید ، وفی نفس الوقت یبین عن طبیعة الشخصیات المتحاورة. " ( 10) ، کما یعرض الحدث عن طریق تقدیم المکان والزمان والشخوص.

    إن أهمیة الحبـکة تأتی من دورها الحیوی والریادی فی النظام السردی ، وتؤدی وظیفته ؛ فهی " تعید ترتیب الوظائف السردیة بتنظیم تراتبی جدید ، عن طریق إعادة ترتیبها فی مجموعات مختلفة من التحولات الوظیفیة. " (11)، فالحبکة تضم فی طیها عنصر الحدث وعنصری الزمان والمکان حیث تعید الحبکة هذه العناصر فی نظم تراتبی ، مع ما یتصل بها من حرکة الشخوص وعنصر الحوار، فعندئذٍ یختلف هذا النظام باختلاف تناول السارد لحبکته ، فتظهر مثلاً الحبکة ذات البناء الصاعد ، والحبکة ذات البناء النازل ، أو الطریقة التی تبدأ منها الحبکة ، أو تنتهی ( البدایة والنهایة ) ، ومن ثم یظهر التوتر فیها ، فکل ما سلف یشکل الطریقة التی یبنی بها السارد حبکته وینسجها ، لترتیب الوظائف السردیة ، على نحو مختلف فی کل حین.

أما الوظیفة الأخرى للحبکة فهی " إثارة الدهشة فی نفس القاریء " (12)، فتعد هذه الوظیفة مهمة ؛ لأنها تتصل بالقارئ الذی یتذوق العمل الإبداعی ، ومن هنا فإن عنصر التشویق والإثارة له دور فاعل فی جذب المتلقی ، وإثارة فاعلیته التأویلیة .

 

الحبکة ذات الحدث الصاعد:

      یبدأ الحدث فی هذه الحبکة بالتصاعد والارتفاع إلى الذروة ؛ حیث تتعدد الأحداث والأفعال التی تشکل عقداً متفرقة ، فیدفع ذلک إلى نمو الحدث نمواً تصاعدیاً ، یرتفع بتعدد العقد فیه  فوقوع بعض الأحداث المتوالیة مترتب على وقوع بعضها الآخر ، وهذا ما یدفع بالحدث إلى الصعود  فـ " الأحداث التی تقع ، أو التی یقوم بها أشخاص ، تربط ما بینهم علاقات ، وتحفزهم لفعلهم حوافز ، إنما هی أشخاص أو أفعال ، تتوالى فی السیاق السردی تبعاً لمنطق خاص بهـا  یجعل وقوع بعضها مرتباً على وقوع البعض الآخر. " (13)

     ومن سمات الحدث الصاعد ، أن له سمة وظیفیة ، فیؤدی کل حدث دوراً مهماً فی اتجاه النص إلى الأمام ، فیبدو واضحاً ألا یکون تتالی الأفعال اعتباطیاً فی سرد ما ، إنما یخضع لمنطـــق معین. " (14)

کما أن الحدث الصاعد لا یحوی تعقیداً عمیقاً ، یجلب الملل إلى المتلقی ، کما یضفی طابعاً تلقائیاً بالاصطناع والتکلف.

ومما یمثل ذلک فی شعر تیسیر سبول  قصیدة ( ما لم یقل عن شهر زاد ) (15)، وفیا یقول:

شهر زاد

لِمَ أسرت بی حکایاکِ إلى أمس دفین؟

عبر سرداب من الأوهام یفضی لیقین

فإذا بی مثقل أحمل فی جنبی سرا

لیس یدری

هکذا بدأت القصیدة ، عبر صوت داخلی فی أعماق الشاعر ، الذی یستحضر شخصیة شهر زاد  من قصص الأدب العربی القدیم ، ویظهر أول ملامح الصراع فی داخله من خلال السؤال الذی یطرحه: لِمَ أسرت بی حکایاکِ إلى أمسٍ دفین ؟ ، ثم یتعمق الصراع فی داخله من خلال التناقض :سرداب من الأوهام یفضی لیقین ، فهو یرى فی أحداث هذه القصة الخیالیة جزءاً من واقعیة (الیقین ) ، ونلحظ أثر ذلک على نفسه ، حین نراه مثقلاً بالهم ؛ هم المعرفة واکتشاف السر  فشهرزاد المرأة التی طالما جلبت الفرحة والمسرة لنا بحکایاتها الجمیلة ، وقصص الجن والإنس  والتی طالما أحببناها:

عن خفیات لیالیک الطویلة

( ألف لیله

     کل لیله

حلمک الأوحد  أن تبقی للیله).

قصة تروى ومذ کنا صغارا

حملتنا  لأراضی الجن

عبر الریح والأنواء فی عرض البحار.

وحببناک

وحببناک کثیرا

وسهرنا لیلة فی اثر أخرى

لهفة تسأل عما

کان من أمر أخیرا

وعفا من بعد ألف شهریار

ففرحنا.

فی بلادی، حیث عین الطفل والشیخ سواء

دعوة تحیا على وعد انتصار

ثم یتقدم الحدث خطوة ؛ حیث یفصح الشاعر أن هذه المرأة لیست کما کنا نظن، إنها لیست تلک المرأة القویة التی تصدت للظلم  والجبروت ، المتمثل بشهریار ، بل هی امرأة أفنت عمرها فی خدمته ، آملة أن تتحرر من قیده ، فیما کانت عیون الأطفال والشیوخ (دعوة تحیا على وعد انتصار).

     إن صورة هذه المرأة الخائفة أوحت للشاعر بصورة مماثلة ، هی صورة الأمة الخائفة ، لقد رأى من قصة شهر زاد ما یتشابه مع حال الأمة العربیة الخائفة ، التی عاشت لیالیها فی خوفٍ دائم.

ألف لیلة

کل لیلة

حلمک الأوحد أن تبقی للیله.

فإذا ما الدیک  صاح

معلناً میلاد صباح

نمتِ  والموت سویاً فی فراش

ثم یتقدم بالأحداث خطوة أحرى ؛ حیث یعلم أن دعوات النصر والأمـــل بالخلاص لیست إلا محض أوهام.

         شهر زادی

خدعة ضللت الآذان عمرا

ورست فی خاطر التاریخ دهراً.

إن عفا من بعد ألف شهریار

ثم یصل بالحبکة إلى بؤرة الصراع ومحور التأزم الذی یعیشه ، إنه ینطلق من إحساسه بتناقض المشاعر واختلافها ، ثم  لإدراکه الحقیقة ،لذا فإنه فی استحضاره لهذه القصة إنما یرید أن تکون خلفیة ، تعبر عن مشاعره وأحاسیسه تجاه واقعه.

   ثم یتساءل فی نهایة القصیدة هل سنبقى ننتظر ، وهل سنکون کشهر زاد التی أفنت عمرها دون انتصار:

وسنبقى

فی بلادی- حیث عین الطفل والشیخ سواء

دعوة تحیا على وعد انتصار

کلما دقَّ على الأفق شتاء

نتسلى بحکایاک الشجیة

ونغنی لانتصار

لم یکن یوماً ولا یرجى انتصار

تحت عینی شهریار

من هنا نجد تیسیر سبول یعمد إلى استحضار هذه القصة ضمن قالب قصصی ؛ لتعبر عن الواقع الحاضر  ، فالشاعر یرى فی الماضی صورة مماثلة للواقع . لقد استخــدم الشاعر/ السارد ضمیر ( الأنا) فی بنائه للأحداث؛ إذ کانت الأحداث المتتابعة والمتصاعدة مرتبطة بهذا الضمیر ، فیظهر السارد بصورة البطل ، یؤثر ویتأثر بالعوامل الخارجیة ، فنجده قد عاصر وعاش کل مرحلة من مراحل الأحداث.

     ویستمر الشاعر فی شحن الأحداث بضمیر المتکلم ؛ حیث یضیف بعض الکلمات التی تؤکد هذا الضمیر ( بی-  جنبی - بلادی- وجدی- شهر زادی) ، ولعل ذلک نابع من حرص السارد على إبراز ( الأنا) البطل من خلال الأحداث.

     کما أن ضمیر المتکلم یؤدی وظیفة الربط بین الأحداث المتتابعة ؛ حیث یعبر عن الواقع الحاضر من خلال  استحضار هذه القصة / قصة شهر زاد.

      لقد سارت القصیدة من بدایتها إلى نهایتها وفق نظام سردی تصاعدی أراد الشاعر من خلاله أن یصور الواقع العربی بأسلوب أدبی یعکس من خلاله معاناة الواقع الحاضر ، فی صورة الأمة الخائفة .

     إن استمرار الخوف وعدم القدرة على اتحاد الأمة العربیة على کلمة ،  یمکن القاریء من متابعة السرد إلى نهایته ، فالأحداث التی تجری بالأمة العربیة تجعل الانتصار على العدو وهماً ، وما هو إلا شعارات تتغنى بها الأمة العربیة ، فیظهر لنا مما سبق أن الأحداث المتصــاعدة قد أدت  وظائف ؛ منها کشف حقیقة الأمة العربیة ، وقد قابل السارد بین الأحداث ، محاولاً کشف الستار عن الحقیقة التی حرص على إظهارها ، رغم ما یثیره من نقد لاذع للموقف العربی ، کما حملت الأحداث مهمة تمثیل التوتر والصراع ، بین ما هو کائن من الأمة العربیة ، وما یجب أن یکون ، کما منحت المتلقی دوراً کی یشارک فی إیجاد صیغ الخروج من العقدة ، وذلک عن طریق إحیاء الذاکرة العربیة من جدید.

 

الحبکة ذات الحدث النازل:

      إن تتابع الأحداث فی السرد الحکائی یمثل الطریقة التقلیدیة التی تقوم علیها الفنون السردیة  فغالباً ما یقوم السرد بعرض البدایة ، ثم یتدرج بسیر الأحداث حتى تصل إلى الذروة ، ثم یعرض فی النهایة حل العقدة ، لکن الطریقة الأخرى فی تتابع الأحداث تقوم على قلب هذا النظام ، وهو ما یسمى بالحدث النازل ، حیث یبدأ السارد من آخر ما حدث زمنیاً فی آخر الحکایة ، ثم یرد بعد ذلک فی السرد الحدث الذی سبقه زمنیاً ، وهکذا حتى ینتهی ، وقد عاد إلى أول حدث مر به من حیث الزمن.

     وهذا التبدیل الذی یطرأ على نظام تتابع الأحداث ، هو إعادة لإنتاج الحکایة السردیة بصورة تدعو إلى التغییر ، والحدث النازل هو الابتداء بالحدث الأخیر فی زمن الحکایة ،  والتدرج

 

عبر الأحداث النازلة ، حتى یصل السارد فی النهایة إلى أول حدث فی زمن الحکایة ، فالسارد له مطلق الحریة فی التفنن بسرده الذی یبنین " فقد لا یطابق الزمن السردی  الزمن الوقائعی الذی یحیل إلیه ، وقد لا یتتبع تسلسله ، فالراوی یتفنن فی سرد ما یحدث ، یقدم ویؤخر فعلاً على فعل ویلعب وفق ما یراه مناسباً للمسار الذی یبنی ، أو لسؤال التشویق ... " ( 16)

     ومما یمثل هذا المنحى الفنی قصیدة ( النسر الغائب) (17) ؛ حیث یبدأ الشاعر بالحدث الأخیر فی الحبکة ، أی ما حدث زمنیاً فی آخر الحکایة ، وهو  أسر  أخیه ( شوکت ) ، وإبعاده بسبب آرائه السیاسیة ، ویبدأ بندائه بأعلى صوته ، متوجعا ، والحزن یغالبه:

یا نسری ، آه یا نسری

یا نسرا غاصت فی الصحراء مخالبه

یجرحها الرمل ، تغالبه

عریت عروقک یا نسری

وکسرت جناحک یا نسری

ومفاصل عظمک ما وهنت

فالشاعر منذ البدایة یحاول أن یعرض هذا الحدث ، ویقدمه على الأحداث الأخرى ، فالشاعر یبکی أخاه / النسر ، الذی غاصت فی الصحراء مخالبه ، وعریت عروقه ، وکسرت جناحه .ثم یعرض الشاعر الحدث النازل الآخر ، وهو سبب أسره قائلاً:

یا نسری آه یا نسری

فی أسرک مثلی فی أسری

لو أغنیة

      عبر الأبعاد المرمیة

تأتیک تقول بعادک طال

لکن هیهات

   یبست فی حلقی الکلمات

لو نظرة عین منک ترانی

سترى یا کم صرت أعانی

فالشاعر یرتد إلى الحدث النازل / الهابط ، وهو أسر أخیه ، فالأحداث تتوالى وفق وقوعها التاریخی فی الحکایة على النحو التالی/ إن أخاه له آراء سیاسیة ، أدت إلى أسره ، ومن ثم حزنه وتوجعه علیه ، ولکن السارد جعل هذه الأحداث تتوالى تبعاً لنظام مختلف، ینحدر تنازلیاً ؛ حیث یبدأ بالحدث الأخیر فی الحبکة ، ثم یرد بعد ذلک فی السرد الحدث الذی سبقه زمنیاً ، وهکذا حتى ینتهی ، وقد عاد إلى أول حدث مر به ، من حیث الزمن.

      لقد سارت القصیدة وفق نظام سردی تنازلی ، حرص الشاعر من خلاله على إبراز حزنه وفجیعته  على أخیه الذی أسر وأبعد عنه ، حیث انتهى إلى ما بدأ به قائلاً:

        قلبی

        عینی

کل عروقی تصرخ ( ماء)

والماء مع النسر الغائب

والنسر یغالب فی الصحراء

حیث یؤکد إصرار أخیه على موقفه وثباته على آرائه التی کانت سبباً فی أسره وفقده وبعده عنه.

 

السرد المباشر:

     یطغى ضمیر الغائب ( هو ) على مجریات الأحداث ، فیقدم السارد سرده بطریقة مباشرة  تظهر فیها الشخصیة ، بینما ینأى السارد بنفسه قلیلاً عن التأثیر على مجریات الأحداث ، فهو یقدم شخصیة بضمیر الغائب ، وهذا ما بینه وبین شخصیته ؛ حیث " یقدم الکاتب الأحداث فی صیغة ضمیر الغائب ، وتتیح هذه الطریقة الحریة للکاتب لکی یحلل شخصیاته وأفعالها تحلیلاً دقیقاً وعمیقاً ، ثم إنها لا توهم القارئ بأن أحداثها عبارة عن تجارب ذاتیة وحیاتیة ، وإنما هی من صمیم الأشیاء الفنیة. " ( 18)ومما یمثل ذلک قصیدة ( مرثیة شیخ ) ( 19)

یقول تیسیر سبول:

کان صوتاً شاحباً أعلن

أن الله أکبر

سورة الإغماء شدت وجهة العانی 

عمیقا

    یعبر الشاعر عن حزنه لوفاة والده ، حیث یشیر الصوت الشاحب إلى الانکسار والحزن والفجیعة والسبب موت الشیخ الذی یرمز للإرث القدیم والمجد الغابر ، وأصبح جسداً هزیلاً  مسجى فی رقدة الموت ، فتغیرت لموته مظاهر الحیاة ، هذا التغیر فی مظاهر الکون یعنی أن الشیخ لم یکن شخصاً عادیاً ، وحیاته لم تکن حیاة عادیة .

إن هذا الهیکل الملآن أصداء

سنینا ومراره

ذا الجبین الناتئ المشرع  للأنواء

یومئ بجسارة ،

         ولذا فالشاعر فی تقریبه لصورة الشیخ صوره بالسفینة ،حیث یعبر الشاعر عن مسیرة والده ، أو مسیرته هو فی هذه الحیاة ، بل هی تشیر إلى الموقف الشعری والتجربة التی عاشها  وعانى مرارتها  فیصف تجربته ، بکل ما قاسى فیها من بؤس ومرارة ، التی صورها بسفینة  واجهت غضب الأمواج والحیتان ، متحدیة  رافضة ، حتى ملت فی النهایة کل شیء ، وفقدت الإحساس بطعم البحر ونکهته ، واستسلمت أخیراً بعد أن فشلت ، ولم تحقق هدفها ، فمالت لتنام.

فلنقل: کان سفینة

مثلت أضلاعها للریح فی عرض البحار

وتحدت مغضب الأمواج  والحیتان

عاما بعد عام ،

وتناهت نکهة البحر وسر البحر فیها،

فلنقل :

داخت أخیرا

وتداعى برجها الآن

فمالت لتنام

ثم صوره بالسیف:

فلنقل : سیف جلیل نائم

قد کان ینهض

 

ظامئ الشفرة   أبیض

جاب أمداء

          وخلى  أثرا

                  أیا کان  ،

اغمدوه

آن یستلقی مسجى  فی الغماد ،

فی جدار المنزل الأرحب صدرا

علقوه

    ولیکن  عالی النجاد

حق بعد الیوم ألا یشهرا

       لقد کان الشیخ سیفاً جلیلاً ، لکن الآن موضوع فی غمده ، ومعلق فی جدار المنـزل  وکتب علیه ألا یرتفع بعد الیوم ، السیف رمز الکرامة العربیة ، أو التاریخ العربی الذی کان ملیئاً بالإصرار والتحدی والانتصارات والمفاخر ، نجده الیوم معلقاً فی جدار المنزل ، مجرداً من الفعل.

   ثم یستکمل الشاعر السرد ، والحدیث عن السفینة ( الهیکل الیابس ) ، والسیف ، والذی یشیر به إلى الحال التی أصبح العرب علیها ، فقد بدا المجد العربی بشموخه واستشرافه کسندیانة تعیش فیها النسور ، رمزاً للقوة والعلو ، تحطمت ، وتعالت فوق الجراحات ، وقاومت ببأس وصلابة کل ما جابهها من عدوان ، ثم تهاوت وصارت إلى الحال التی وصلت إلیه السفینة.

هی ذی الآن  تهاوت

بعد أن برّحها طول اعتوار

لا تقولوا  ( لم تکن )

کانت ،

وهذا الهیکل الیابس

من نفس  الأرومة ،

بورک  الشیخ سلیل السندیان

ذلک الشیخ الذی یغفو

ملیئا بالزمان ،

الهیکل الیابس هو الشیخ ، والهیکل من نفس أرومة السندیانة ، والشیخ سلیل السندیانة  والسندیانة کانت تعیش فی عزة وقوة ، رمزاً للشموخ العربی ، والشیخ الذی هو من سلالتـها رمز  للإنسان العربی ، الضاربة جذوره فی أعماق التاریخ.

ثم یکمل الشاعر سرده بأن غفوة الشیخ لابد أن تنقضی ، وأن یعود من غفوته ، ویعنی بذلک العودة إلى دماء الجدود ، والتسلح بالمجد الغابر والکرامة العربیة ، فهما السبیل للعودة للحیاة.

فالمسا ینتظر

والشجر

مدّ أیدیه  عاشقا

         سائلا

            أن تعود

                 لنسوغ الجدود .

     وبهذه الطریقة فإن الشاعر یسرد حال الشیخ بضمیر الغائب ( هو ) ؛ إذ یقف سـارداً  أو ناقلاً فی صورة حکایة ( یحکیها ) ، واضعاً بینه وبین هذه الشخصیة حاجزاً ، وهذا الحاجز هو ضمیر الغائب ، ویکتفی بالعرض السردی ، وینأى بنفسه قلیلاً عن الأحداث المدرجة.

 

السیرة الذاتیة:

     حیث یغلب- هنا- استخدام ضمـیر المتکلم ، فیظهر ( الأنا )بوضوح فی السرد الذی یسرده الشاعر ، " فالراوی یروی من خلال معرفته الشخصیة ، ومشارکته الأحداث  والراوی ( أنا )  ینطلق  فی معظم الأحیان من زاویة نظره هو ، فهـــو الذی یرى ویتکلم . "(20)

        عندئذٍ ینقل السارد معانیه ودلالاته إلى المتلقی ، واضعاً فیها تجربته الخاصة بشکل مباشر ، دون اللجوء إلى التستر ، ومما یمثل ذلک قصیدة ( غجریة ) (21)

یا جحیم الطبل والمزمار عد بی

لعشیات العصور الوثنیة

عبر عینی غجریة

رحلتی خلف مسافات قصیة

خلف ما یرتاد وهم أو خیال

        حیث تفتتح القصیدة بالإشارة إلى شعوره بالضیق من القسوة واللؤم والغموض الماثل فی تلک الغجریة ؛ التی یرمز بها للمرأة اللعوب ، إن موقفه من هذه المرأة یجسد موقفه من جملة النساء اللائی یعشن هذه الحیاة العابثة ، وهی کذلک صورة من صور التردی الذی یعیشه المجتمع  لکنه على الرغم من هذا الموقف مشدود نحوها ، یعلم أنها تهدم نفسه ، ولکنه لا یحاول الخلاص منها  بل یطلب إلیها أن تسرقه من واقعه المضنی ، وتنسیه الألم ، ولو کان بألم آخر ، والذی یتمثل فی هدم قیمه ومبادئه.

غجریة

قدم تضرب صدر الأرض، تعلو

وتدق الأرض دقا

زوبعات من غبار

ودوار

وعروق مجهدات.

تتلظى وقد نار.

أمطرینی

أمطرینی

من سدیم الغیب زخات سخیة

ألصقینی بالترب

     یسعى الشاعر من خلال سرده القائم على ضمیر المتکلم ( أنا)نحو الحیاة الفطریة البسیطة  والبعیدة عن جفاف المدینة وجدبها ، وتلک نظرة مثالیة ، تهرب من دنیا الواقع النفسی ، إلى عالم وهمی ، هی رحلة رمزیة إلى الحیاة الفطریة الخالیة من الآثام والمفاسد ، وهی  فرار من برودة الحزن ، إلى دفء العاطفة.

        وتکمن المفارقة فی أن الشاعر فی هروبه إلى هذه الغجریة ، یقف أمام ما هرب منه  فتتجسد أمامه معاناته فی واقعه ، وقد عبر عن ذلک بقوله: ( قدم تضرب- صدر الأرض تعلو- وتدق الأرض دقاً)

     إنها قدم الاستعباد والحریة المصادرة ، القدم التی هرب منها یجدها أمامه فی صورة هذه المرأة التی تدق بقدمیها الأرض ، وهی تدق الأرض ، ولا تضربها ، وکأنما تحفر فیها لتترک أثراً ، أو تقیم أساساً ، وموقفه من هذه المرأة / الغجریة یجلیه قوله ألصقینی بالتراب ، ومع أن لفظة التراب تحمل دلالات عدیدة ، لکن سیاق القصیدة یشیر إلى أن فیها ما یجلب العار ، ویلوث النفس  وکأنه یقول تمرغ وجهی فی التراب أو الوحل.

    لقد خرج الشاعر باحثاً عما یبعده عن الحیاة التی یعیشها ، یبعده عما فیها من تناقضات فکانت النتیجة أنه عاد بخیبة أمل ، حینما وجد نفسه فی صورة تعکس واقعه ؛ حیث یقول:

غجریة

جثث تهوی، تموت

مثلما ینتفض الطیر الذبیح

مثلما تعصف بالأوراق ریح

ثم یکشف عن موقفه الذی دارت حوله القصیدة ، من خلال السرد الذاتی قائلا:

غجریة

هارب یحملنی مدّ الدروب

قدری الأسود مجهول رهیب

وتناهى بی مطافی

عند عینین هما مقبرتا

کل الخوافی

  وهکذا یظهر السرد مفارقة واضحة ؛ فالغجریة / المرأة التی لجأ إلیها الشاعر اختارها رمزاً للنقاء والطهر والبراءة ، وأصبح للجوء إلیها نزوعاً نحو البساطة والفطرة والنقاء.

      أمطرینی  أنت مازلتِ غنیة

لم یلطخ شفتیک الطین

بنیا واحمر

لم تخونی منحة الشمس

فهذا الوجه أسمر

ما کسته حلل الوجه المزور.

    فقد عاش الشاعر أحوال القهر والظلم والاستبداد ، فیبدو من خلال ذلک مشارکاً رئیسیاً فی الأحداث ، ویرى نفسه عارفاً بصور التناقضات والزیف ، وهو الذی یراها ویتحدث عنها کما عاشها ، وهو بذلک یرید إعطاءنا صورة واضحة عما حدث من زاویة رؤیته.

   وقد اتجه السرد بالحدیث إلى ضمیر المتکلم وضمیر المخاطب ، بعد أن کان یسوده ضمیر الغائب حیث یضفی ضمیر ( الأنا) على النص دقة التعبیر ، ویکشف عن رؤیا العمل؛ حیث تعکس التجربة التی یخوضها الشاعر بهذا الضمیر صورة توهم بالواقعیة ، فهو مشارک فی الأحداث ، مما یقرب إلى المتلقی صورة الأحداث عن کثب.

        وإذا نظرنا إلى الأفعال الواردة ( أمطرینی- ألصقینی- یحملنی- أنحر)  نجد أن دخول الشاعر إلى هذه الأحداث بهذه الصورة یعزز الرؤیة الشعریة ، ویثریها ؛ لأنه هو من یقوم بالأحداث ، أو تقوم فیه الأحداث ، یؤثر ویتأثر فیها ، ومن هذا الجانب یقدم ضمیر ( الأنا ) – هنا- دوراً حیویاً فی دعم النسیج السردی المتکامل .

     کما یکشف ضمیر ( الأنا) العوامل النفسیة والداخلیة التی تکمن فی الأحداث، مما یجعل العمل السردی أقرب إلى الواقع ، ویجعل الشخصیة تنطق بمکنوناتها الداخلیة ، وتظهر أفکـارها  " فالسرد بضمیر المتکلم من شأنه أن یضئ الشخصیة من الداخل . " (22) فیمارس السارد من خلال استخدامه لضمیر ( الأنا) لعبة فنیة ، تسنح له بالحضور القوی فی قلب الأحداث ، حیث نجده  عنصراً فاعلاً ، یقوم بالأحداث من خلال موقعه کفاعل ، فهو عالم بما یحدث داخل النص السردی ، فنجد الشاعر یشیر إلى ذلک :

أنا من خلف المدینة

ظامئاً لم یسقنی إلا السراب

وهذا یدل على حرص الشاعر فی التدخل ، الذی یوهم الإقناع ، فالسرد بضمیر المتکلم ( أنا) هو " سرد یستخدم تقنیة الراوی بضمیر ( الأنا) ؛ لیتمکن من ممارسة لعبة فنیة ، تخوله الحضور ، وتسمح له بالتالی التدخل والتحلیل ، بشکل یولد وهم الإقناع . " (23)

 

****

 

 

 

 

 

المبحث الثــــانی

المکـــــان

    المکان عنصر مهم من عناصر السرد ، یبرز قیمة العمل الأدبی ، وخصوصاً النصوص الشعریة  فهو یرتبط ارتباطاً وثیقاً بالزمن ، کما یرتبط ارتباطاً وثیقاً بالمکونات السردیة الأخرى ،" یتمتع المکان بأهمیة استرتیجیة وسیمیائیة فی تشکیل الخطاب السردی ، عبر تحاثیه( تداخله ) مع المکونات السردیة الأخرى " ( 24) ، فهو بمثابة خلفیة رئیسیة ولوحة یدرج ویرسم علیها الشاعر أو السارد ألوانه المختلفة ، فتظهر الأنماط والأشکال السردیة من خلال هذا المکان لوحة متکاملة ذات صبغة جمالیة.

  کما تشکل نسبة العلاقات التی یرسمها الشاعر ما بین الأمکنة وغیرها من الأشکال السردیة عنصر بناء أساسی ، تتشکل من خلاله رؤیة الشاعر والسارد ، ولعلنا إذا نظرنا فی دیوان تیسیر سبول ، فإننا سنجد مجمل قصائده قد أطرها بالمکان.

 ویشکل عنصر المکان آلیة مهمة ، یکونها الشاعر ، لتشکیل قصائده ، ویرسمها عبر تفاعلات متعددة ، وتحولات أساسیة ، " فالمکان عندما ینتقل من مداره الواقعی الحیاتی العادی ، إلى مداره الفنی الروائی أو الشعری ، یمر من خلال أنفاق متعددة ، نفسیة وأیدیولوجیة وفنیة ، لکی یصل أخیراً إلى المدار الفنی التشکیلی. " ( 25)

      لقد رسم تیسیر سبول الأمکنة التی تتعلق بالواقع الفعلی فی معظم قصائده ، فنجده ینظر إلى المکان نظرة مختلفة ، فلم یعد المکان هو مصدر الطمأنینة الإنسانیة ؛ لذا " فإن تغیـــیر طبیعة الإحساس بالحیاة هو الذی جعل أدباء القرن العشرین یغیرون أسلوب تعاملهم مع الواقــــع ، فلم یعد إحساسهم بالمکان یبعث فی أنفسهم الشعور بالاطمئنان ، لذلک تغیرت نظرتهم إلیه . " ( 26)

     وقد شکل المکان حیزاً محوریاً من اهتمام الشاعر تیسیر سبول وعنایته ، وقد تم توظیفه توظیفاً خاصاً ، عکس رؤیته الشعریة للواقع الإنسانی بوجه عام ، والأردنی بوجه خاص  وأبدى حرصاً واضحاً على استرجاع الأماکن ذات العلاقة بطبیعة مفردات تجربته الذاتیة  التی شهدت طفولته وصباه ، وینم ذکر تلک الأمکنة وتعدادها على محاولته التشبث بهذه الأمکنة ، والتعلق بأطیافها الباقیة فی الذاکرة ؛ ذلک أن " الأماکن التی مارسنا فیها أحلام الیقظة تعید تکوین نفسها فی حلم یقظة جدید ، ونظراً لأن ذکریاتنا عن البیوت التی سکناها نعیشها مرة أخرى کحلم یقظة ، فإن هذه البیوت تعیش معنا طیلة حیاتنا" ( 27)

 ومن یتأمل هذه الأمکنة وتجلیاتها فی خطاب تیسیر سبول الشعری یجدها أماکن غیر بینة المعالم  ومن الأماکن التی شغلت اهتمام تیسیر سبول ( المدینة ) .

یقول الشاعر  ( 28)

صدیقتی

کل العیون ها هنا حزینة

فالحزن قد غزا المدینة

جنوده الأقزام قد تسلقوا البیوت

وحطَّ فی آفاقنا سکوت

تشی الوجوه ها هنا

بأننا نموت

لا  تشفقی  – صدیقتی

یقتاتنا السأم

برقة ودونما ألم.

إن مدینة الشاعر حزینة ، ویبدو الحزن فی صورة الجیش الغازی ، وله جنود من الأقزام الذین یتسلقون البیوت ، وهذه الصورة الغریبة تعبر عن إحساس  مماثل بغرابة الحزن الذی سیطر على الشاعر ، بل على الناس جمیعاً ، حیث یصور الحزن بجیش قوی ، یتسلق البیوت کلها  ویدمرها  ویقتل أهلها، والمدینة صامتة ، وکأنه یرصد المدن العربیة التی یعیش فیها العربی ، کأنه فی ساحة حرب ، مع الأنظمة والحکومات ورجالها ، کما تعبر عن إحساس الشاعر بالحزن والألم والوحدة والوحشة والسکون والضعف.

کما ورد لفظ ( الدرب ) فی دیوان الشاعر فی مثل قوله :  ( 29)

أنا أبکی محنة الوحشة فی صدر الغریب

حینما لحتِ مع الجلاد

تلغینی أذن عیناکِ؟

أغدو کالسراب.

فی ضمیر الکون شلَّ البوح وانهد نشیج

سدّت الدرب فلا حلم دخول أو خروج

آه، آه ، الجدب یقتات المروج .

ورمى الملاح للیمّ شراعه

کانت الخیبة ترتاد جبینه

ونأى.

رحلة نحو ضفاف دون حب أو ضغینة

وبلا ماض ولا مستقبل : محض انتظار

لا  تلومی

لا  تلومی

أغلقت کل دروبی

فلتکن درب الفرار.

حیث یبدو درب الشاعر مسدوداً ، وصور الشاعر نفسه ملاحاً ، تعود الأسفار ، ورکب البحار حتى وصل الشواطئ الأخیرة ، وألقى عصا الترحال ، متعباً ، منهکاً ، حزیناً ، تغلف الظلمة قلبه  وتفرش الوحشة صدره ، وتکسو الخیبة وجهه ، ویأکل القلق نفسه ، ویبدو أن الشاعر وصل إلى طریق مسدود ، وأصبح مسلوب الإرادة ، یائساً  ومحبطاً وخائفاً ، وصار مجهول القدر ، وکأنه یشیر إلى واقع الأمة العربیة ، المسکونة بالأحزان ، بسبب الانکسارات والانهزامات التی لحقت به.

    ویعد الشارع من أمکنة المسارات التی تجری فیها الأحداث ، وهو بمثابة متنفس ونقطة وصل ما بین المدن والأبنیة ، " هذا المکان الذی یلتقی فیه الناس جمیعاً ، فی أی ساعة ، لیلاً أو نهاراً  ومهما کانت منازلهم الاجتماعیة ومهمتهم وأعمارهم وانتماءاتهم وشتى عوامل اختـلافهم،  فهو

بالتالی أهم معرض لشبکة العلاقات والوظائف ، التی تنبنی علیها ثنائیة الأنا والآخر ، التی تمثل العمود الفقری للمعیش الیومی" ( 30) .

وقد استخدم الشاعر تیسیر سبول الشارع فی قصیدة ( عودة الشیخ ) (31)

هو ذا شیخ الشتاء

أغلق الأفق وجاء.

هو ذا ینقل فی الشارع نقرات عصاه

قادم یحمل فی سر إهابه

أدوات من فنون السحرة ،

ریشة ترسم أقواساً على عرض السماء

وزناداً  یشعل البرق وغلیوناً لتصعید الغمام

فقفوا

      ودعوا لغو الکلام

واهتفوا

مرحبا، شیخ الشتاء.

     حیث یجرد الشاعر من الشتاء شیخاً ، ثم یصف هذا الشیخ بالرجل القوی ، الذی ینقر بعصاه الشارع ، ویکشف هذا التصویر عن موقف الشاعر من القدریة ، الذی یجب أن یخضع لها  ولا یملک إزاءها إلا أن یصمت ، ویترک لغو الکلام.

     کما وردت ( الصحراء ) فی شعر تیسیر سبول ، والصحراء تشکل مکاناً واسعاً ، وهی ببعدها الشاسع تمثل حاجزاً یفصل الأقطار ، بعضها عن بعضها الآخر ، فلابد للذی یرید اجتیازها من أن یمتلک الصبر والمثابرة والشجاعة ، فی مواجهة المصیر المحتوم ، الذی تنطوی علیه  ، لذا ارتبط مفهوم البعد والغربة عن الوطن بالصحراء ، التی تمثل حاجزاً واسعاً ، تفصل بین الأخلاء والأوطان، " ولعل من أبرز جمالیات المکان الصحراوی ارتباطه بالعدوان على الحریة الفردیة ، فی مؤازرة البحر الذی یشارک الصحراء هذه السمة ، فالتضاد الکونی الواسع یغری الناس باستلاب حریة بعضهم ، ولعل الصحراء ارتبطت بالعدوان والغزو وقطع الطرق ، وکذلک ارتبطت رمزیة الصحراء بإحاطتها الواسعة بالفرد الذی تستلب حریته. " ( 32)

وقد ظهرت الصحراء فی شعر تیسیر سبول بهذه الصورة فی قوله:

من زمان (33)

من تجاویف کهوف الأزلیة

کن ینساب على مدّ الصحاری العربیة

لیتنا کالحلم سحریا شجیا

یتخطى قمم الکثبان

                یجتاز الوهاد

من زمان

شربت حسرة ذاک الصوت

حبات الرمال

مزجته فی حنایاها

فکأنی قد تنفست شجونه

وکأن الصوت فی طیات صدری

رجع الیوم حنینه

فأراه

بدویاً خطَّت الصحراء لا جدوى خطاه

موحشاً یرقب آثار الطلول

--------------

خلتنی  عدت أراه

بدویاً خطَّت الصحراء لا جدوى خطاه

سار فی عینیه وهجَ الشمس

والرمل وعود برمال

ومدى الصحراء صمت

وعذابات ارتحال ،

فتغنى

وسرى الصوت على مدّ الصحاری العربیة

مودعاً  فی الرمل غصَّات أغانیه الشجیة

إن هذا الصوت المنبعث من ذات الشاعر  إنما هو تعبیر عن حقیقة المشاعر التی تعمر نفسه تجاه الإنسان العربی ، الذی عاش على هذه الصحراء منذ الأزل ، لکن الشاعر لا یبسط لنا مشاعره  لنتلقفها جاهزة ، بل یترک الرمز وتداعیات القص یعبران عن موقفه النفسی ، لقد أحس الشاعر بصوت یتردد حوله ، یسمعه ، فیشعر بقدمه ، صوت منبعث من تجاویف الکهوف ، قطع الأمداء  وسار عبر الصحاری ، متخطیاً الکثبان والوهاد ، هکذا یبدو الصوت عمیقاً أزلیاً .

      لکن الشاعر لا یکتفی بذلک ؛ حیث یضیف إلینا رموزاً تصور المأساة التی یجسدها الصوت (شربت حسرة ذاک الصوت ذاک حبات رمال )  ، فهو صوت حزین ، تجرع صاحبه الحسرة والألم ، وهنا یربط الشاعر بین الصوت ، وما بداخله  من حسرة ، وبین حاله هو ( مزجته فی حنایاها- أعادته إلیا) ، وینبعث الصوت مجدداً ، ولکن متوحداً مع الشاعر ، فیخرج من طیات صدره ، لیرى عندئذٍ صاحبه ( بدویاً خطت الصحراء لا جدوى خطاه) .

     لقد حاول الشاعر فی هذه الأسطر الشعریة أن یقیم علاقة لحمیة بین الماضی والحاضر ، تجربة الماضی ممثلة بالأمجاد العربیة ، تشارکه حاضره ونفسه ، فیحاول الوصول إلى اکتشاف ذاته  ومعرفة هویته .

 

وقد وردت ( صحراء سیناء ) صراحة فی شعر تیسیر سبول فی قوله:(34)

أزجی لسیناء العجوز نحیب شعبی

لا صدى

عشرون ألف مقلة

نقر العقاب

واللیل أطبق

فلیکن لیل- وکان.

لا

والقادسیة قصة عجفاء

فرس الهزیمة ، لیس غیره

عشیة امتقع النهار بذلّ  شعبی

تسری فی الزمان

باسم الذین تجندلوا

فرس الهزیمة تنثنی

سیناء

سیناء ، یا قلب أصمُّ

علیکِ صلى الله ها جسد العروبة

أسطورة ملأى بتاریخ الجراح

تمددت فوق الرمال.

حیث یعبر الشاعر - فی هذه القصیدة – عن عمق الأثر الذی خلفته مأساة النکسة فی النفس العربیة ، حین حمل إنسانها جرح الإحساس بالهزیمة ، إحساس المصدوم بمرارة واقعه  والمخذول المخدوع بما کان یؤمل من نصر ، فحین طلع الصباح اتضحت معالم المعرکة، ولم یکن ثمة نصر ، بل عیون مطبقة ، ونساء فقدت الدفء بموت أزواجها.

   وفی خضم الإحساس بهول  الکارثة یفقد الشاعر الإیمان بجدوى أی خطوة ، فلا یفید البکاء ، ولا استحضار الأمجاد أو الاستغاثة بالعرب ، فحین لاحت سحب الهزیمة وذبح الرجال ، ونقر العقاب العیون ، عندها غاب النور وساد الظلام ، وصارت أصوات النصر مجرد هذیان.

 

  لقد أحس الشاعر  بألم النکبة ، وعانى مرارة الهزیمة ، فکان صدى صوته نشیجاً دامیاً مراً ، وسوطاً یجلد به ذاته ، قبل أن یجلد به الآخرین ، وفی غمرة هذا الإحساس بالألم کان فی بحث دائب عن أی تفسیر صادق لما حدث ، ویحاول تلمس الأسباب، بعیداً عن الهذیان  وتکون هذه الوقفات بدایة التحول ، لیعود لأمل بحتمیة النصر ، على ید جیل آخر ، یستمد القوة من الذین ضحوا بأنفسهم ، ومضوا باسم الذین تجندلوا

فی أرض سیناء العجوز.

زند سیبرق

کفُّ  جیل سوف تلتقف العنان

ویعود فی نهایة القصیدة للتأکید على أن الحرب مع الأعداء لم تنته ، وأن أولئک الذین قضوا فی سبیل بلادهم قد حملوا شرف الریادة ، لتکون دماؤهم شعلة النور ، التی یستضیء بها الذین یواصلون الدرب ، فیستفیدون من الهزیمة.

      وهذه النهایة إنما تأتی فی انسجام تام مع ذلک التصور الذی کان یحمله تیسیر سبول عن حتمیة انتصار العرب على الصهیونیة العالمیة ، نهایة قصة ستعیش عقوداً لم تنهار أمام العملاق العربی الذی بدأ یستیقظ من غفوته مع نهایة القرن التاسع عشر.

  ومن الأماکن التی وردت فی دیوان تیسیر سبول ( القبر ) ، ویشکل القبر مکاناً ضیقاً مغلقاً ،وهو بمثابة مجمع ومثوى أخیر للأوجاع والآلام والأحزان ، کما یمتاز بالظلمة ، ففی هذا المکان یموت الأمل ، وذلک بانقضاء صور الحیاة ، وتبقى الذکریات المحملة بعبق الماضی الغابر.

یقول الشاعر :   ( 35)

وأنا أصرخ – تکذیباً لعینی – ( محال)

لحظة مضنیة الصمت

هوى نجمی – تلاشى لزوال

والمروج الخضر بالأمس تعرت

واستحالت لیباب

فإذا صدرک أخوى من خراب

وإذا أنت

کقبر متداع تحت أطباق التراب

****

 

المبحث الثالث

الزمــــن

       الزمن فی مفهومه الأدبی آلیة مهمة ، لها أبعاد وظیفیة وجمالیة ، فهو یشکل أداة فنیة فی العمق الشعری ، یشکل بها الشاعر منجزه الفنی ، فیجسد  مشاعره وأحاسیسه ومادته الأدبیة والشعریة الخام ، إذ تعد الأزمنة وما تحویه من أحداث مثارة، یستلهم منها الشعراء ضوءاً لبناء عملهم الشعری، أما على المستوى السردی ، فإن الزمن یجمع بین زمن الحکایة الذی حدثت فیه القصة ، وزمن السرد الذی کتبت فیه هذه الحکایة ؛ حیث یقوم الروائی على لسان السارد بالتلاعب فی النظام الزمنی للحکایة ، فالزمن الأدبی لا یفتـرض احترام تسلــــسله الزمنی  " فالإمکانات التی یتیحها التلاعب بالنظام الزمنی لا حدود لها، وذلک أن الراوی قد یبتدئ السرد فی بعض الأحیان ، بشکل یطابق زمن القصة ، ولکنه یقطع بعد ذلک السرد ، لیعود إلى وقائع تأتی سابقة فی ترتیب زمن السرد عن مکانها الطبیعی فی زمن القصة. " (36) فالسارد یقطع وتیرة النظام الزمنی المتسلسل ، لیسترجع الأحداث الماضیة ، أو قد یستبق الأحداث فی السرد  بحیث یتعرف على وقائع الأحداث قبل وقوعها.

 

من آلیات الزمن السردی:

الاسترجاع:

     الاسترجاع هو أحد الأسالیب التی یصطنعها الکاتب ، یستطیع به أن " یؤلف نوعاً من الذاکرة القصصیة التی تربط الحاضر بالماضی ، وتفسره وتعلله ، وتضئ جوانب مظلمة من أحداثه  ومسارات هذه الأحداث فی امتداداتها أو انکساراتها ، واسترجاع الماضی إیقاف للسرد المتنامی للعودة إلى الوراء " (37) ، فالرجوع إلى حقبة زمنیة إلى الوراء ، یصاحبها التذکر المرتبط بالفعل الماضی ، الذی ینقب عن القدیم والرجوع إلى فترة  سابقة ، هو استدعاء للزمن الماضی الذی هو بمثابة مرجع یعود إلیه السارد ، لتوضیح شئ ما یرد فی الحاضر ، لذلک اتسم الاسترجاع بعدة وظائف ؛ منها:

أ‌-                 إعطاء معلومات عن ماضی عنصر من عناصر الحکایة ( شخصیة- إطار- عقدة ).

ب‌-            سد ثغرة حصلت فی النص القصصی ، أی استدراک متأخر لإسقاط  سابق مؤقت ، ویسمى هذا الصنف اللواحق المتممة أو الإحالات.

ج- تذکیر بأحداث ماضیة ، وقع إیرادها فیما سبق من السرد ، أی عودة السارد بصفة صریحة أو ضمنیة إلى نقطة زمنیة ، وردت من قبل ، ویسمى هذا الصنف باللواحق المکـــررة والتذکیر. (38)

       ویتشکل الاسترجاع " من مقاطع استرجاعیة ، تحیلنا على أحداث تخرج عن الحاضر  لترتبط بفکرة سابقة على بدایة السرد ، أی استرجاع حدث سابق عن الحدث الذی یحکی  وروایة هذا الحدث لحظة لاحقة لحدوثه . " ( 39) وفی الأغلب یأتی الاسترجاع مرتبطاً بالفعل الماضی ، حیث الذکریات التی تعود بالنص الشعری إلى أعماق الماضی ومجریاته .ومما یمثل ذلک قصیدة ( مرثیة الشیخ ) (40)

یقول الشاعر:

کان صوتاً شاحباً أعلن

أن الله اکبر

فحملنا الجسد الهش وسرنا

----------

ربما قبل عصور

کان هذا الهیکل الیابس یوماً

سندیانة

شمطت تستشرف الودیان

مدت جنبات

عششت فیها نسور

من عل

      راقبت الذئبان تقتات بحملان

تستدعی آلیة الاسترجاع حادثة سابقة ، وهی موت والده الشیخ ، والشیخ – هنا- یرمز للإرث القدیم والمجد الغابر ؛ فالشیخ لم یکن شخصاً عادیاً ، وحیاته لم تکن عادیة ، فالشیخ رمز للمجد العربی ، بشموخه واستشرافه الذی کان کسندیانة ، تعیش فیها النسور ، رمزاً للقوة والعلو  تحملت وتعالت فوق الجراحات ، وقاومت ببأس وصلابة ، کل ما جابهها من عدوان.

 

 

        والشیخ سلیل السندیانة ، والسندیانة کانت تعیش فی عزة وقوة ، رمزاً للشموخ العربی  والشیخ الذی هو من سلالتها رمز الإنسان العربی ، الضاربة جذوره فی أعماق التاریخ ، وهنا نجد رثاء الشیخ ، واسترجاع حادثة موت الشیخ الذی کان رمزاً للقوة والشهامة والشموخ ، لیقارن بین الماضی الذی کان به الأمجاد والعزة والکرامة، وبین الحاضر الذی اندثرت فیه الأمجاد العربیة.

        لقد کان الاسترجاع اقتباساً من الماضی ، أراد الشاعر من خلاله إبراز الصورة التی یجب أن یکون علیها الإنسان العربی  ، فما آلت إلیه الأحوال والظروف  ،  وما حدث من تغییر على الأرض ، والإنسان فی الحاضر ، تستجلیه الإرادة والعزم والتغییر المنشود ، والتطلع إلى أمجاد الماضی من هذه الزاویة ، هو تطلع إلى واقع جدید ، مختلف عما هو علیه الآن ، حیث یستمد الشاعر هذه القیم المثلى والحیاة الفضلى ، التی قرنها بالصورة المشرقة التی کانت فی المـاضی حیث البطولة والکبریاء والثورة ، ویتمنى من خلال هذا الاسترجاع أن تستمر هذه الصورة فی الواقع الراهن، وأن یعود الإنسان العربی ووطنه إلى ما کانا علیه من قبل.

   لقد کان تیسیر سبول مستغرقاً  فی الماضی ، واستغراقه کان إیحائیاً ، حین أصبح الماضی محفزاً ومحرکاً لروح جدیدة ،  جدیدة ، نحو تحقیق الحلم ، فهذا الماضی مسکون بحب الأرض والتعلق بها لذلک کان الماضی والحاضر لدیه متلازمین ومتداخلین ، حیث أخذ الحاضر یحفز الشاعر لاستعادة الماضی إلیه ، موازناً بین زمنین ؛ زمن المجد والبطولة  والشرف ، المتمثل فی الماضی ، وزمن الهزائم والأحزان والفساد المتمثل فی الحاضر.

کان لابد لتیسیر سبول من أن یبرز فی الاسترجاع الشموخ والهیبة والکرامة العربیة ، وربطه ربطاً وثیقاً بالحاضر الذی کان انهیاراً لتلک الأمجاد العربیة ، وفی التذکیر بالماضی بعث لروح جدیدة  تحمل الهم والأحزان ، کما تحمل الوعی بالقضیة العربیة.

فالمسا ینتظر

والشجر

مدّ أیدیه عاشقا

   سائلاً

    أن تعود 

     لنسوغ  الجدود

      إن الشاعر یرى أن هنالک وقتاً للاستیقاظ والعودة إلى دماء الجدود وجذورهم ، والتسـلح

 

 بالمجد الغابر والکرامة العربیة ، فهما السبیل للعودة للحیاة. وهکذا استطاع الشاعر أن یسلط الضوء على هذه القضیة ، العودة للأمجاد العربیة ، من خلال آلیة الاسترجاع ، ومن هنا "تأتی أهمیة الاسترجاع کونها تقنیة تتمحور حول تجربة الذات ، وتعادل وفقاً للمصطلح النفسی ما یسمى الاستبطان ، أو التأمل الباطنی " (41)

 

الاستباق:

    الاستباق هو استحضار الأحداث الواقعة فی المستقبل ، وهو " القفز على فترة ما من زمن القصة ، وتجاوز النقطة التی وصلها الخطاب لاستشراف الأحداث ، والتطلع إلى ما سیحصل من مستجدات فی الروایة . " (42) ، ویأتی الاستباق مفتوحاً على المستقبل الآتی ؛ إذ ینتهی زمن السرد ویظل الاستباق معلقاً ، ویکون تعلقه مرهوناً بمعطیات الواقع الحاضر ، ومما یمثل ذلک قول الشاعر:

الریح مثقلة هوان (43)

تمضی مع الأبناء والأحفاد

باسم الذین تجندلوا

فی أرض سیناء العجوز

زندٌ سیبرق

کفٌ جیل سوف تلتقف العنان

الاستشراف -  هنا- هو استشراف تفاؤلی ، حاول الشاعر من خلاله استباق الأحداث لاستجلاء صورة الحاضر، الذی یتمثل فی الهزیمة التی لحقت بالعرب فی سیناء ، والنظرة التفاؤلیة المستقبلیة ، التی تحاول أن تستفید من الهزیمة ، فالحرب مع الأعداء لم تنته ، ولن تنتهی ، وأن أولئک الذین قضوا فی سبیل بلادهم قد حملوا شرف الریادة ، لتکون دماؤهم شعلة النور التی سیضیء بها الذین یواصلون الدرب ، فیستفیدون من الهزیمة ، ویجعلونها سبیلاً لمستقبل مشرق  أکثر فخاراً .

     وهکذا جعل تیسیر سبول من الاستشراف متنفساً وبصیص أمل فی الخروج من واقع الهزیمة المظلم  ، ومن خلال هذا الاستشراف یبحث عن الخلاص.فلابد – إذن – من خروج النور الذی سوف ینهی الهزیمة والآلام والأحزان ، ولابد أن ینجلی الظلام، ولذلک جاء المضارع المسبوق بـ ( سین ) التسویف (سیبرق ) والفعل ( یلتفت ) المسبوق بـ ( سوف ) للتأکید والیقین الجازم على أنه ما بعد الشدة إلا الفرج ، وأن الظلم سوف ینقضی بظهور الأمل.

وقول الشاعر : ( 44)

وسنبقى

فی بلادی - حیث عین الطفل والشیخ سواء

دعوة تحیا على وعد انتصار

کلما دقَّ على الأفق شتاء

نتسلى بحکایاک الشجیة ،

ونغنی لانتصار

لم یکن یوماً  ولا یرجى انتصار

تحت عینی شهریار.

     یستحضر الشاعر / السارد المستقبل ، لیعبر من خلاله صراحة عما سیأتی لاحقاً ؛ حیث " یقوم الاستشراف بوظیفة إعلان ، عندما یخبر صراحة عن سلسلة الأحداث التی سیشهدها السرد فی وقت لاحق ؛ حیث ینطلق الشاعر من إحساسه بتناقض المشاعر ، واختلاطها ، ثم لإدراکه الحقیقة  لذا فإنه ، لذا فإنه یعلن  أننا سنبقى ننتظر ، وسنکون کشهر زاد ، التی أفنت عمرها دون انتصار وبذا یعبر الشاعر عن الواقع الحاضر ، فالشاعر یرى المستقبل فی صورة مماثلة للماضی.

     إن الشاعر ینعى فی الاستباق حال الأمة العربیة  ، التی عاشت لیالیها فی خوفٍ دائم ، على وعد الانتصار الذی لن یأتی ، فالأمة العربیة مثل شهر زاد ، التی أفنت عمرها فی خدمة شهریار  ولم تحقق ما أرادت ، وکذا الأمة العربیة ، سوف تنتظر الانتصار ، لکن لن یأتی ، فهو استشراف تشاؤمی.

 

الحــذف :

        یعد الحذف من الآلیات الزمنیة التی تسرِّع السرد ، حیث یقفز السارد بین فترات مختلفة فی طولها وقصرها ، متجاوزاً بذلک أحداثاً ووقائع ، فهنا یسکت السارد عن تناوله الفترة المحذوفة  ویشیر  - أحیاناً- إلى الفترة الزمنیة المحذوفة ؛ کقول السارد : مرت سنة أو مرت عشر سنین  أو مرت أیام ، وهذا ما یعرف بالحذف المعلن فـ " الحذف المعلن یترک جزءاً من القصة  مسکوتاً عنه فی السرد بالکامل ، أو أحیاناً یکون مشاراً إلیه بعبارات زمنیة مثل : مرت أیام عدیدة ، أو بعد سنة أو سنین الخ من العبارات التی تدل على الإلغاء الحکائی. " (45)

ومما یمثل هذا المنحى قصیدة ( لحظات من خشب ) ( 46) ، والتی یقول فیها:

کنت أعلم

أن عیداً بعد عید بعد عید

سوف تأتی

ثم تمضی

وأنا أحرق تبغاً

یذکر الشاعر مدة الحذف المعلن ، فی قوله: ( إن عیداً بعد عید بعد عید )  ،  فیختزل الأعیاد کلها ؛ لیعکس إحساسه بالوحدة والعزلة ، فی مناسبة العید ، التی تجمع الأصدقاء والأحـبة ولتثیر الوحدة مشاعر الحزن والضیق ، بدلاً من الفرحة ، فیعبر الشاعر عن مدى حزنه العمیق  حین یتصور أن الحزن قد انتقل إلى کل ما یجاوره ، وهذا الشعور یشمل کل الأعیاد التی جاءت  ومرت ، والتی سوف تأتی  أیضاً ، وهنا استباق -  أیضاً- واستشراف  لأحداث مستقبلیة.

وقول الشاعر:  ( 47)

نمت والموت سویاً فی فراش

ألف لیلة

غاض فی عینیک ایماض التصبِّی

یختزل الشاعر مدة الحذف المعلن ، وهو ( ألف لیلة ) ، فیختزل تلک اللیالی الألف ، التی عاشتها شهر زاد ، والتی أفنت عمرها فی خدمة شهریار ، آملة أن تتحرر من قیده ، والتی أوحت له بصورة مماثلة ، وهی صورة الأمة الخائفة ، فقد رأى فی قصة شهر زاد ما یفسر مع وضع الأمة العربیة فی الوقت لحاضر ، التی عاشت لیالیها فی خوفٍ دائم ، فیستخدم الشاعر- هنا – الحذف لإسقاط الأحداث التی تضمنتها قصة الألف لیلة ، التی عاشتها شهر زاد ؛ لأنها لا تضیف شیئا جدیداً ، یعمق دلالة الحدث السردی ، فتکرار الأحداث فی الفترة المحددة جعل الشاعر یلجأ إلى الاستغناء عنها.

*****

المبحـــث الرابع

الحــــــوار

    یعد الحوار الدرامی عنصراً محوریاً فی بناء العمل الشعری ذی النزعة السردیة ، وهو تقنیة فنیة متمیزة ، تسهم فی جعل المتلقی یصغی إلى أصداء أفکار الشاعر وإیقاع أحاسیسه ، والحوار حدیث الشخصیة الإنسانیة ، المنبعث من أعماقها ، والمعبر عنها أدق تعبیر ؛ لأن الشخصیة الصامتة تبدو مثل لوحة ساکنة ، ولکن ما إن تتحاور حتى تنبض ملامحها ، وتتحرک الحیاة فیها  حینذاک یتکون الانطباع الأول عنها.

     ویبدو أن الشاعر  تیسیر سبول قد وجد فی أسلوب الحوار بنوعیه : الخارجی والداخلی عوناً له فی بناء خطابه الشعری بناءً سردیاً ، وذلک لأن الحوار " یوضح أبعاد القصة المطروحة ، أو الموضوع المثار ، على نحو یزیده ثراً وتکثیفاً )(48)

وفی دیوان تیسیر سبول سجل الحوار حضوراً مکثفاً ، على النحو الذی تجلى فی کون عددٍ غیر قلیل من قصائد الدیوان قد بنیت برمتها على تقنیة الحوار ، وقد تجلى الحوار الذی اکتسى حضوره فی الخطاب الشعری المعاصر نزعة سردیة ، عبر مستویین اثنین ؛ أحدهما الحوار الخارجی ( الدیالوج ) ، والآخر الحوار الداخلی ( المونولوج ).

 

الحوار الخارجی( الدیالوج ):

         یمثل الحوار الخارجی تقنیة أساسیة من تقنیات البناء السردی لتعویله على تعدد الأصوات والمشاهد التی تکسب النص قیماً موضوعیة، فتعدد الأصوات فی فضاء النص الشعری ، یدخل النص فی حوار یدفعه إزاء التصاعد الدرامی، ویحقق القیم الدلالیة والجمالیة فیه.

ویعرف الحوار الخارجی بأنه " تبادل الکلام بین اثنین أو أکثر ،  أو إنه لحظة تواصل ، حیث یتبادل  ویتعاقب الأشخاص على الإرسال والتلقی . " ( 49).

      ومثال للحوار الخارجی قصیدة ( من مغترب ) (50) ؛ حیث یقیم الشاعر حواراً مع الغجریة ، لینقل ما یمور داخل الذات المؤرقة من أحاسیس وانفعالات ، فالحوار الذی أقامته الذات الشاعرة مع المرأة / الصدیقة ، ما هو إلا حوار مع إیقاع النفس ، فی لحظة تساوى فیها إیقاع النفس / الداخل ، مع إیقاع الخارج ، متمثلاً فی الغجریة لتی یتوحد معها ، ویتخذ منها معادلاً موضوعیاً لنفسه التی رفضت الحیاة .

 

یقول الشاعر:

صدیقتی

تحیة من متعب حزین

تحیة ترعش بالجبین

     للمسة

      لکلمتی عزاء.

صدیقتی

فی المنتأى أغالب العیاء

أنسج فی الصباح من ذکراکِ أمنیة،

أحلم بالمعاد

      إذ یضمنا لقاء

أخاف یا صدیقتی من أوبة المساء

حیث یقیم الشاعر حواراً مع صدیقته ، والشاعر – هنا – لا یتوجه إلى صدیقته بقدر ما یتوجه إلى الذات المتماهیة مع تلک الصدیقة ؛ لینقل ما یمور داخل الذات المؤرقة من أحاسیس وانفعالات ؛ فالحوار الذی أقامه الشاعر مع الصدیقة ما هو إلا حوار مع إیقاع النفس ، فی لحظة تساوى فیها إیقاع النفس / الداخل ، مع إیقاع الخارج ، متمثلاً فی الصدیقة ، الذی یتوحد معها واتخذ  منها الشاعر معادلاً موضوعیاً لنفسه ، التی رفضت الوحدة والوحشة ، والتی تتمثل فی اللیل ، والرغبة فی الخلاص بالصباح ، الذی هو طریق الحلم باللقاء ، واستحضار الذکرى  والأمل المشرق باستعادة الحب ، ولیس الخوف إلا من مجیء اللیل بأحزانه وآلامه .

    وقد تمیز الشاعر - فی هذا النص -  بالمزج بین السردی والشعری ، الذی تجلى فی اختیار الجمل الشعریة الدائریة الغنیة بالإیقاع الموسیقی ، المحمل بشفافیة وجدانیة مؤثرة ، دون أن یخسر الشعر.

      إن حوار الشاعر مع الصدیقة ، على الرغم من انه جاء مباشراً ، فإنه لم ینأى عن التقنیة السردیة  ، وإنما کان قادراً على الإفصاح عما یستأثر باهتمامه ، وما یشغل عالمه، وکان مرتبطاً برؤیته الإنسانیة وتجربته الشعوریة ، فقد جعل من الحوار عصب القصیدة وبؤرتها المحوریة ، التی تتنامى من خلاله وأثراه  یفیض من التدفق والحرارة ، فأصبح یموج بالحیویة والدلالات الخفیة.

       والواقع أن الحوار -  فی هذا المقطع-  وإن اتخذ شکل الحوار الخارجی المباشر فإنه فی حقیقة الأمر لا یعدو أن یکون حواراً  داخلیاً ، تغلغلت المناجاة فی أجزائه .

     ویعود الشاعر مرة أخرى  إلى أسلوب الحوار الخارجی ، فینقل المحاورة فی قوله:

صدیقتی

وتسألین لِمَ أنا حزین ؟

معذرة فأنتِ تسألین

قدیسة لم تعرف الذباب

فی وحشة اغتراب.

      أسهم الحوار – فی هذا المقطع- فی نمو الحرکة الداخلیة للقصیدة ، وکان محوراً أساسیاً فی بنائها السردی ؛ إذ بدأ بالإیقاع مع البنیة الحواریة سریعاً بعض الشیء ، واتسم الخطاب الشعری بالإیجاز والتکثیف ، دون أن یدخل فی الجزئیات والتفاصیل ، ثم یعود الإیقاع مع الوصف السردی إلى الهدوء والسکون والبطء ، ثم ما یلبث النص المؤسس على الحوار أن یعود مرة أخرى إلى التدفق والتسارع ، بفعل انتقال القصیدة إلى جمل تمیل إلى السرعة والتدفق ، لکونها تقوم على عنصر الحدث ، الذی له أسئلة وإجابات ، فضلاً عن أن تناوب الحوار والسرد وتداخلهما فی تشکیل القصیدة ، ینتج عنه  - بلا شک  - تنوع البنیة الإیقاعیة ، فالسارد یستخدم ببراعة تقنیة الروی المحاید ، کأنه خارج الصورة ، یستعید تفاصیلها.

ومن أمثلة الحوار الخارجی   قصیدة ( غجریة ) (51) ، والتی یقول فیها:

أمطرینی

أمطرینی

من سدیم الغیث زخات سخیة

أمطرینی أنتِ مازلتِ غنیة

لم تخونی منحة الشمس

غجریة

ماذا تحمل عینیکِ من الأسرار

ألغاز الحکایا السرمدیة

أنتِ لا تدرین شیئا

       ومن یتأمل البناء الفنی لهذا المقطع یکشف أن الحوار اضطلع بوظیفة تعبیریة موحیة ، إذ أدخل لوناً من الحرکة الداخلیة فی بنیة القصیدة ، وجسد المغزى الکامن فی المقطع ، وأثار فی الذات المتلقیة مشاعر وأحاسیس کان من الصعب إثارتها بدون الحوار ، فالشاعر یضحی بنفسه من اجل حبیبته / الغجریة ، رمز البساطة والطبیعة ، التی لم تزور وجهها ، ولم تزیف شخصیتها ویطلب منها ، ویطلب منها أن تمطر قلبه القاحل ، وتروی ظمأ روحه الجدیبة .

       ولعل فی تکرار فعل الأمر ( أمطرینی) ثلاث مرات ما یؤکد حاجته لتلک المحبوبة ، التی تمثل الفطرة والنقاء  والبراءة ، ویعبر عن لهفته الکبیرة للقرب منها ، والاتصال بها ، ویبقى الشاعر معللاً نفسه بتلک الأمنیات الجمیلة والأحلام السعیدة ، إلى أن یأتی المساء / رمز الحزن وغیومه مثقلة بالنشیج .

 

الحوار الداخلی ( المونولوج):

     فی هذا المستوى من الحوار تنقسم النفس على ذاتها ؛ لتدخل معها فی حوار ، یجسد الحدث  وتعبر به الشخصیة عن أفکارها المکنونة ، دون تقید بالتنظیم ، فخواطر الإنسان لا تقل أهمیة أو دلالة عن کلامه أو أعماله ، وتسجیلها واجب على الفنان ، وهو یسهم فی نمو الحرکة الداخلیة للقصیدة ، ویعطیها بعداً درامیاً مؤثراً .

     والمتفحص لنصوص دیوان تیسیر سبول الشعریة ، یتبین له أن الشاعر قد أکثر من استخدام الحوار الداخلی فی بنائه السردی ؛ لوعیه بحقیقته ، ولإدراکه بقوته الدافعة لآلیة السرد ، ویتبدى ذلک فی عدد من القصائد ، التی بنیت على تقنیة الحوار الداخلی.

     ومن صور الحوار الداخلی الذی عبر الشاعر فیه عن غربته النفسیة ، وما تولد منها من ضیق وسأم ، تجلى فی طرح عدد من الأسئلة على الذات الشاعرة ، حیث یحاور نفسه ، متکئاً فی ذلک على تقنیة (الحلم) ، بحسبانه منبعاً للصور الشعریة ، فجاء التعبیر عن المغزى الکامن وراء هذه الأسطر على شکل حوار داخلی ، نابع من أعماق الراوی ، فالحوار الداخلی یعد  البوتقة التی یحدث فی داخلها ذلک التفاعل بین الحیاة والحقائق السائدة ، حیث یتم النظر إلى الحیاة ، ومحاولة تحدید أبعادها ، أو حتى تشویهها ، عن طریق وجهة نظر شخص معین ، فی زمان ومکان معینین .

یقول الشاعر فی قصیدة ( الحلم )(52) :

وکنتِ معبقة بالبهار

تراخى بهارک

حوًم

حطّ

وأنشب فی عصبی قسوته

کأنکِ  حین خطرتِ إلی

وطئت أدیمی

------------------

رأیتک تنأین عنی

وعیناکِ  ما زالتا تومئان إلیا

نأیت

نأیت

تحولت أفقاً بعیداً

وکنت مسجى

وکنت وحیداً

صباحاً  خرجت

التقیت بوجه المدینة

رأیت إلى الشمس تضحک فی الأفق

لکن نفسی کانت حزینة

رویداً  أسیر

ویطبق – فیما أسیر _ علی الزحام

  تهجس القصیدة بأن الذات الشاعرة اعتمدت الحوار الداخلی لما وجدت نفسها أسیرة الذکریات ، فکان الحوار مع النفس مخرجاً لأزمتها النفسیة ، وأداة للانفصال عن معاناة التمزق النفسی والفکری ، إذ أعادت الذات الشاعرة تشکیل الحادثة ، وصوغها من جدید ، مستلهمة مادتها من مخزون ذاکرتها الشخصیة ، ومن واقع الحیاة الیومیة ، وهذا المنحى یومئ إلى إشکالیة مهمة فی تشکیل السیرة الذاتیة ، تتمثل فی علاقة المرء بماضیه ، فاستعادة ذکریاتها عملیة صعبة  واستعادة اللحظة الزمنیة عملیة مستحیلة ؛ لذا تغدو کتابة السیرة تعویضاً عن زمن هارب .

ومن الحوار الداخلی- أیضاً-  قصیدة ( لحظات من خشب ) ( 53) التی یقول فیها:

أنا والمذیاع  واللیلة عید

والمغنی یمضغ الفرحة

فی مطٍ بلید

ولفافاتی استقرت

حثیثاً بین الرماد

کنت أشتاق لو أن التبغ فی صدری

ذو طعمٍ ولو کان مریر

کنت أشتاق لو أنی

لی بهذا العید أفراح صغیر ،

لو أنی

لی به فجعان مأتم

إن هذه  المقطوعة تستخدم الحوار الداخلی وسیلة من وسائل التعبیر ، لتنقل لنا قصة واقعیة من الحیاة ، فیها تصویر للصراع والتأزم ، الذین یمر بهما الشاعر ، عارضة الموقف من خلال التناقض وتجسید المحسوس ، وتشخیص الجمادات.

     والموقف الذی یرید الشاعر التعبیر عنه أنه یعیش وحیداً ، دون أن یجد مؤنساً ، یشارکه أفراحه أو أحزانه ، ولکن الشاعر لا یعبر لنا عن هذا الموقف تعبیراً مباشراً، بل یلجأ إلى تلوین الموقف ، وإعطائه هذه القیمة الدرامیة ؛ لیخلق التوتر فی نفس المتلقی / القاریء ،الذی یبقى مشارکاً الشاعر فی حواره الداخلی.

       ونلمح صوراً عدیدة من صور التوتر الناجم  عن الشعور بالتناقض ، ونشعر بحرارته ، من خلال تحدید الشاعر للإطار الزمنی ( اللیلة عید ) ؛ فلیلة العید مناسبة سارة ، لکن الشاعر الذی یبدأ بقوله ( أنا والمذیاع ) یوحی لنا بسیطرة الوحدة والعزلة علیه ، فی مناسبة العید ، التی تجمع الأصدقاء والأحبة ، ولتثیر الوحدة مشاعر الحزن والضیق ، بدلاً من الفرحة ، فیعبر الشاعر عن مدى حزته العمیق ، حیث یتصور أن الحزن قد انتقل إلى کل ما یجاوره، فیبدو المغنی حزیناً ، ( یمضغ الفرحة فی مط بید ) ، فالمغنی یبدو عنده غیر صادق ، وإن کانت کلماته توحی بالفرحة بمقدم العید ، وبذلک فإن غناء المغنی أصبح صورة من صور التناقض ، بین الکلمة والحقیقة.

 

        وتمتد الوحدة والموت إلى کل شیء ، حتى یرى الشاعر لفافات التبغ جثثا بین الرماد  وهذه الصورة إنما هی تجسید للتلاحم القائم بین الفکر والشعور ، ویستثیر هذا الموقف موقفاً آخر

( کنت أشتاق لو أنی لی بهذا العید أفراح صغیر- لی به فجعان مأتم )  ، واستخدام الشاعر الفعل الماضی الناقص ( کنت ) ، ثم لحرف التمنی ( لو )  یدل على إحساسه باستحالة تحقق أمله ، فهذا العید  قد أقبل  ، والشاعر وحید ، لا یجد الخلاص ، ولن یجده ، وهذا هو سر الحزن فی نفسه .

کنت أعلم أن

أن عیداً بعد عید بعد عید

سوف تأتی

ثم تمضی

وأنا أحرق تبغاً

وبقایا ذکریات

     والشاعر یحاور نفسه ، ویشعر أن ثمة إحساساً حزیناً ، یطغى على المشهد ، ویزید من توتره وتصاعده ، وتجلى فی بنیة الخطاب الشعری المزج الموفق بین البنیة السردیة وجمالیات الشعریة  لتکوین بناء فنی متماسک التشکیل ، متکامل النسیج ، وقد برع الشاعر رغم سهولة التراکیب وسلامة الأداء فی إحداث الأثر المعنوی  وعیاً وتثقیفاً ، والأثر الجمالی  إقناعاً وطرافة.

      وقد أوحى الحوار الداخلی فی هذه القصیدة بحدیث متفرد ، صاغه الشاعر ، لتبرز من خلاله هواجس الشخصیة وخواطرها ، ولتعبر عن تجاربها وخواطرها بصورة أکثر حضوراً وتأثیراً فی وجدان الذات المتلقیة الأمر الذی جعل الحوار یؤدی دوراً بنائیاً مهماً ، مع بقیة المکونات السردیة فی نقل تجربة الشاعر ورؤیته لواقعه الذی یطرحه.

    وقد عکس هذا الحوار تداخلاً بین السرد والحوار الداخلی والحوار الخارجی ، إذ جسد تنوع الأصوات وتعددها وتداخلها صوت الراوی وصوت المغنی ، وهکذا تجلت وظیفة الحوار الداخلی فی رسم أبعاد شخصیة الشاعر ، بحیث تناسق الحوار مع الحالة النفسیة لتلک الشخصیة ، وما تشعر به من خوف وقلق وحزن .

      وهکذا نجد أن الحــوار بنوعیه / الخارجی والداخلی فی نصوص تیسیر سبول السردیة لم یکن منفصلاً عن سائر تقنیات البناء السردی ؛ کالارتداد والاستباق ، وإنما کان هناک تداخل بین هذه الأسالیب جمیعها ، حیث أدى الحوار دوراً مسانداً إلى جانب تلک التقنیات ، فی إقامة  البناء

السردی فی الدیوان ، وذلک من خلال ما کشفت عنه تلک الحوارات من رؤى مختلفة ، أضفت على البناء السردی مزیداً من التنوع والحرکة ، ومزیداً من العمـق فی إقامة العالم الواقعی فی هذا

الدیوان ، والحوار بوصفه أداة فنیة کان طیعا بید الشاعر ، حمل مواقفه وثقافته وأفکاره ومعتقداته وأخیلته ، إلى جانب کونه یثری التجربة ، ویمنحها أبعاداً جدیدة ، ویکشف عن نفسیة الشخصیات وطباعها وملامحها.

*****

 

المبحـــث الخامس

الشخصیـــات

       الشخصیات من العناصر الرئیسیة التی یبنی علیها السارد عالمه ، فالسارد "یتماهى بالشخوص ، ویبرز أصواتها ، بإعادة إنتاج أقوالها ، بحسب أنماط سردیة مختلفة ، وتبقى النظریات المجردة مفیدة فی تأسیس مفاتیح ، وإیجاد اللغة المشترکة ، ویبقى التطبیق هو الأصعب ، إنه الفعل الأکثر تعقیداً ، وهو النشاط الذی یعرف بالقفز على التفاصیل ، أو الإشکالات الصغیرة، مع الاتکاء على رؤى کلیة ، تعزز الخطوات الثابتة والمنهجیة " (54) ، " فالشــــخصیة الروائیة یتجاذبانها قطبان وجودیان؛ هما الوعی المتراکم ، داخل شرایین الذاکرة ، و( الأنا ) وثانیهما الإصرار على خرق جدار رتابة الواقع ونمطیته ، وأن السرد هو الممون الرئیسی لحرکیة الحدث الوجودی ، أو هو المبرر الفعال للهم الوجودی ، المشترک بین الشخصیة الروائیة والذات الوطنیة . " (55)

     و" بناء الشخصیة ومثولها أمام المتلقی ککیان متکامل هو بناء ثقافی ، فالمتلقی لا یستطیع إدراک هذه الشخصیة ومعرفة أسرارها ، إلا من خلال المخزون الثقافی المشترک ، بین محفل الإبداع ومحفل المتلقی. " (56)

      وقد زخرت قصائد الدیوان بعدد من الشخصیات السردیة ، فثمة شخصیات عائلـــیة ( الأب- الأخ ) ، وثمة شخصیات تراثیة أدبیة وتاریخیة، وهناک شخصیات أخرى ،، ابتدع الشاعر أبعادها وملامحها ، من خلال التجربة الذاتیة ورؤیته الإنسانیة.

    وبالرغم من أن هذه الشخصیات قد تداخلت مع غیرها ، وتشابکت ، فی علاقات متنوعة  فإنها ظلت تحتفظ بملامح وسمات وأفعال خاصة ، ضمن المنظومة السردیة المتعارف علیها فی الفن السردی، ولکن کیف صاغ الشاعر هذه الشخصیات فی قوالب سردیة ؟ للإجابة عن هذا السؤال یجدر الوقوف عند أبرز ملامح تلک الشخصیات وأبعادها.

ومن الشخصیات التی برزت فی الدیوان شخصیة ( الأب ) ،  فی قصیدة  ( مرثیة الشیخ )؛ التی   یقول  فیها (57)

ربما قبل عصور

کان هذا الهیکل الیابس یوماً

سندیانة

شمطت تستشرف الودیان

------

هی ذی الآن تهاوت

بعد أن برّحها طول اعتوار

من شموسٍ وصقیع

یعلن الشاعر فی أبیات حزنه الذی تعمق فی نفسه ، بسبب موت والده ، فیتوجع على رحیله ویذرف الدموع الغزار ، ویصرخ ( وافجیعتاه ) على ذلک السیف الذی کان ظامئ الشفرة  أبیض ، وأصبح نصلاً ملویاً ، ثلمته الحدثان ، وعلى ذلک الهیکل الذی کان کالسندیانة، فی شموخها وعنفوانها وامتدادها ، ولکنه الیوم تهاوى ، وجفت أغصانه ویبست جذوره بفعل الزمان.

   والهیکل الیابس هو الشیخ .من نفس أرومة السندیانة ، والشیخ سلیل السندیانة ، والسندیانة کانت تعیش فی عزة وقوة ، رمزاً لشموخ العربی ، والشیخ هو من سلالتها رمز للإنسان العربی  الضاربة جذوره فی أعماق التاریخ.

ثم یقول:

 

أی سرٍ سحیق

أنت والکبریاء

آن أن ترحلا

فالمسا ینتظر والشجر

مد أیدبه عاشقاً

سائلاً أن تعود

لنسوغ الجدود

حیث یرى الشاعر أن الشیخ لم یمت ، وأنه فی غفوة  ، وهذه الغفوة أشبه بالموت ، وإغفاءة لشیخ تعنی أن هنالک وقتاً للاستیقاظ  ، واستیقاظه یکون بالعودة إلى  نسغ الجدود ،  لذا یجب أن یتسلح بالمجد الغابر والکرامة العربیة ، فهما السبیل للعودة للحیاة.

        ومن الشخصیات التی برزت فی شعر تیسیر سبول شخصیة  أخیه شوکت ( نسره الغائب) ، کما یقول ؛ حیث أسر ، وأبعد عنه ، بسبب آرائه السیاسیة.

یقول الشاعر : (58)

 یا نسری  ، آه یا نسری

فی أسرک مثلی فی أسری

لو أغنیة

عبر الأبعاد المرمیة

تأتیک تقول بعادک طال

لکن هیهات

یبست فی حلقی الکلمات

لو نظرة عین منک ترانی

سترى کم صرت أعانی

قلبی

عینی

کل عروقی ، تصرخ ( ماء)

والماء مع النسر الغائب

والنسر یغالب فی الصحراء

یبکی الشاعر فی الأبیات السابقة أخاه / النسر ، الذی غاصت فی الصحراء مخالبه ، وعریت عروقه ، وکسرت جناحه ، ولکنه ظل قویاً ، مصراً على مبادئه ، ورافضاً للظلم ، وقد أحس الشاعر بغیابه بفقدان توازنه وقوته ، وشعر بالظمأ الشدید ، والحاجة الملحة للماء ، فهو یشبهه بالماء / رمز الحیاة ، وبدونه تصبح  حیاته جدباء کالصحراء .

    ومن الشخصیات التی برزت- أیضاً- فی شعر تیسیر سبول شخصیة ( الغجریة ) ؛ حیث وردت فی قصیدة ( غجریة ) (59)، والتی عدها الشاعر رمزاً للمرأة اللعوب .

یقول الشاعر:

غجریة

قدم تضرب صدر الأرض تعلو

وتدق الأرض دقاً

زوبعات من غبار

 ودوار

 أمطرینی

أمطرینی

من سدیم الغیث زخاتٍ سخیة

ألصقینی بالتراب

       حیث یهرب الشاعر إلى هذه الغجریة ، من دنیا الواقع النفسی  ، إلى عالم وهمی ، وهی رحلة رمزیة إلى الحیاة الفطریة ، الخالیة من الآثام والمفاسد ، وهی فرار من برودة الحزن ، إلى دفء العاطفة ، وتکمن هنا المفارقة ؛ حیث یقف أمام ما هرب منه ، فتتجسد أمامه معاناته ، وقد عبر عن ذلک بقوله : ( قدم تضرب صدر الأرض ، تعلو وتدق الأرض دقا ) .إنها قدم الاستعباد والحریة المصادرة ، القدم التی هرب منها ، یجدها أمامه ، فی صورة هذه المرأة ، لقد خرج الشاعر باحثاً عما یبعده عن الحیاة التی یعیش ، فکانت النتیجة أنه عاد بخیبة أمل ، حینما وجد نفسه فی صورة تعکس واقعه.

وقد وقع الشاعر فی مفارقة ؛ فالغجریة التی لجأ إلیها الشاعر اختارها رمزاً للنقاء والطهر والبراءة وأصبح اللجوء إلیها نزوعاً نحو البساطة والفطرة والنقاء.

     أمطرینی أنتِ مازلتِ غنیة

لم یلطخ شفتیک الطین

بنیاً وأحمر

لم تخومی منحة الشمس

فهذا الوجه أسمر

ما کسته حلل الوجه المزور

لکن فی قصیدة ( عودة إلى الرفاق المتعبین ) (60) یستخدم الشاعر الغجریة رمزاً للتعبیر عن النقاء الأنثوی والبساطة ، وفی سبیل البحث عن الحب الصادق والنقاء الفطری یلجأ إلیها.

یقول الشاعر:

غجریة

یالهاث الرمل ، یاإنسانی الضائع

فی أصداء موال حزین

فأعیدی کلَّ ما کان

ولا تقسی على جساس من أجل خیانة

کلنا کان نخون

ثم تتحول الرؤیة من جدید ، وتنتهی إلى ما انتهت إلیه المحاولات السابقة.

غجریة

کذب : من قال فی عینیکِ أسرارٌ خفیة

مثلما تسعى على الأرض الدیادین الغبیة

أنتِ تسعین

خواء ملء عینیکِ بلاهة

وعناء مطبق یقعی وسقم وتفاهة

ویکون لجوء الشاعر إلى الحب / الغجریة هو طریق الخلاص والنجاة من الواقع الذی یعیش فیه لکن الحب یخفق فی تخفیف الحزن ، وإخراجه من الألم وتحقیق الخلاص.

   کما ظهرت شخصیة المرأة رمزاً للأرض التی تتجسد أماً رءوما حانیة على أبنائها ، حاضنه لهم  ومهدهدة لآلامهم وأوجاعهم ، أو حبیبة وعشیقة ، یخاطب الشاعر من خلالها أهله ووطنه وتاریخه  وهی کل ما یمثله الموطن من أهل وعشیرة ، وحنینه إلیها هو حنینه إلى بلده ، ویبدو ذلک فی قصیدة (تحیة من مغترب) (من مغترب) (61)

صدیقتی

تحیة من متعب حزین

تحیة ترعش بالحنین

للمسة

         لکلمتی عزاء

صدیقتی

فی المنتأى أغالب العیاء

أنسج فی الصباح من ذکراکِ أمنیة،

أحلم بالمعاد

          إذ یضمنا لقاء

  ومن الشخصیات التراثیة التی وردت فی شعر تیسیر سبول شخصیة شهــرزاد ، فی قصـیدة ( ما لم یقل على شهر زاد )(62).

یقول الشاعر:

شهر زاد

 لِمَ أسرت بی حکایاکِ إلى أمسٍ دفین

 عبر سرداب من الأوهام یفضی لیقین

 فإذا بی مثقلٌ أحمل فی جنبی سرا

 لیس یدری

عن خفیات لیالیکِ الطویلة.

یرى الشاعر أن هذه المرأة / شهر زاد لیست کما کان یُظن ، إنها لیست تلک المرأة القویة ، التی تصدت للظلم والجبروت ، المتمثل بشهریار ، بل هی امرأة أفنت عمرها فی خدمته ،  آمـلة أن تحرر من قیده ، فیما کانت عیون الأطفال والشیوخ دعوة تحیا على وعد انتصار ، إن صورة هذه المرأة الخافقة أوحت للشاعر بصورة مماثلة ، هی صورة الأمة الخافقة ، لقد رأى فی قصـة شهریار ما یتشابه مع حال الأمة العربیة ، التی عاشت لیالیها الطوال فی خوفٍ دائم .

ألف لیلة

کل لیلة

حلمک الأوحد أن تبقی للیلة.

فإذا ما الدیک صاح

معلناً للکون میلاد صباح

نمتِ والموت سویاً  فی فراش

شهر زادی

خدعة ضللت الآذان عمراً

ورست فی خاطر التاریخ دهراً

کما یستخدم الشاعر من الشخصیات التراثیة قیس بن الملوح ولیلى العامریة ، رمزاً للتعبیر عن الحب العذری النقی الصادق  ، فی قصیدة ( المستحیل ) ( 63) ، التی بقول غیها:

لا وعمق السرً فی عینیکِ ما کان غراما

وانکفاءاتی ونزفی وأناشیدی الیتامى

لم تکن صرخة قیس خلف لیلى

ففؤادی لم یعد للحب أهلا.

حیث یفشل الشاعر فی إقامة علاقة الحب بینه وبین المحبوبة ، فیزداد شعوره العمیق بالشک والمرارة ، ویتحول الحب الجارف ، الذی کان یحمله ، إلى عداء لما یجسد هذا الحب / المرأة   فیهجره ویجر معه الحیاة ، ثم ینکفئ على ذاته ، متخلیاً عن آمال الحب وأحلامه ، ویعلن أنه لم یعد أهلاً للحب ، بعد أن لاقى الأسى والألم ، مما جره إلیه فؤاده.

      ولکننا لا نفهم کیف لا یکون غراماً وحباً ذلک الذی دفع الشاعر للانکفاءات والنزف والعذاب  والحقیقة أن ذلک هو الثمن الذی دفعه فی بحثه عن الحب النقی ، ولذا فإننا نجد أن الحب عنده یتحول إلى فکرة رمزیة ، تمثل طریقاً ، وهذه هی النهایة الحتمیة لکل من یسلک دروبه.

حینما انسلت إلیه خلسة إحدى اللیالی

رغبة غامضة ألقته فی مدّ المحال

أن یطول العمرا

وبکى مذ شعرا

أن سیبقى أبداً فی أسر صدری

بعدها لوَّن بالمأساة عمری.

الخاتمــــــة:

      وبعد فإن البناء السردی فی دیوان ( تیسیر سبول ) مثل إحدى البنى الأساسیة فی تشکیل نصوصه الشعریة ، وأن خطابه الشعری اتسم بنَفَس سردی ، تبدت عناصر السرد وتقنیاته بشکل  واضح وجلی ،فضلاً عن إفادته من توظیف التقنیات السردیة ؛ من مفارقة واستهلال وختام سردیین ، وتکرار وتناص ، وتنویع فی استخدام ضمائر السرد، وغـــیرها ،  وأن الشاعر ( تیسیر سبول) استطاع أن یغنی الجانب السردی فی دیوانه ، من خلال الإفادة من العناصر السردیة الأساسیة: (الحبکة - والمکان- والزمان – والحوار – والشخصیات ) ، وقد وفق الشاعر  فی تحقیق عنصر التشابک  والتمازج  الشعری التأملی والسردی ، إلى درجة یصعب فیها فصم جزأیهما ، بعضهما عن الآخر.

    وأظهرت الدراسة – أیضاً – أن البناء السردی   فی دیوانه تمثل انعکاساً لرؤیة الشاعر  وتفصح عما یختلج فیها من رؤى إنسانیة ، وتجارب شعوریة ، وأن قصائد الدیوان تحتوی فی مجملها على بناء سردی ، تدور أحداثه حول سیرة الشاعر الذاتیة ، وسیرة شعبه ووطنه، وأنها نهلت من معین السیرة الذاتیة لشاعر مبدع ومثقف ، مشهود له بقراءاته الواسعة ، وتمثله للتراث الإبداعی للإنسان العربی ، ونهلت – أیضاً – من معین سیرة شعبه ووطنه.

    والأشکال السردیة فی شعر تیسیر سبول هی عنصر بناء أساس ،  تتشکل من خلالها رؤیته  فیمارس من خلال استخدامه لضمیر ( الأنا ) لعبة فنیة ، تسمح له بالحضور القوی فی قلب الأحداث ، ویقدم ضمیر المتکلم فی شعره دوراً حیویاً فی دعم النسیج السردی المتکامـل ویکشف العوامل النفسیة والداخلیة ، التی تکمن فی الأحداث ، کما یستحضر أسلوب التناص لیعبر عن مواقفه ورؤاه، ویستخدم الفعل المضارع ؛ للدلالة على توحد التجربة واستمراریتها.

     

     کما یعکس المکان فی شعر تیسیر سبول انعدام الثقة والطمأنینة حتى بالأشیاء التی توحی بالخیر . أما الزمن عند تیسیر سبول  فیشیر من خلاله إلى زمن الهزائم العربیة، فیعود فی الاسترجاع إلى الماضی لیستلهم زمن المجد والانتصار، کما یشیر إلى الماضی لیعید إلى الذاکرة العربیة الآلام والأحزان التی لا تزال محفورة فی الذاکرة، أما الاستباق فیرى من خلاله الثورة التی سوف تأتی لتزیل فی طریقها مظاهر الظلم والاستبداد، ویعقد الأمل بالنصر على المخّلص والمنقذ الذی یأمل بقدومه فی زمن ما لیحرر الأرض والإنسان.

        والحوار بوصفه أداة فنیة کان طیعا بید الشاعر ، حمل مواقفه وثقافته وأفکاره ومعتقداته وأخیلته ، إلى جانب کونه یثری التجربة ، ویمنحها أبعاداً جدیدة ، ویکشف عن نفسیة الشخصیات وطباعها وملامحها. والشخصیات التی تناولها تیسیر سبول حاول من خلالها تصویر إیقاع العذاب النفسی الذی یحمله الإنسان العربی، فهو إما إنسان یهرب من الواقع ، أو یواجه الواقع بالثورة والإرادة .

(1) إبراهیم، علی نجیب،  ، جمالیات الروایة  ، دراسة فی الروایة الواقعیة السوریة المعاصرة ، دار الینابیع للطباعة والنشر، دمشق، 1994م.  
(2) ابن تمیم، علی،  ، السرد والظاهرة الدرامیة، المرکز الثقافی العربی، ط 1، الدار البیضاء. 2003م
(4) إسماعیل، عز الدین،  ، الشعــر العربی المعاصر، قضایاه وظواهره الفنیة والمعنویة، ط 3، دار الفکر العربی، القاهرة.1978م
(4)بارت، رولان،  ،طرائق تحلیل السرد الأدبی ، منشورات اتحاد کتاب المغرب ط 1، 1992م
(5) بحراوی، حسن،، بنیة الشکل الروائی، ط 1، المرکز الثقافی العربی.1990م
(6) بنداری، حسن،  ، فن القصة، القاهرة، مکتبة الأنجلو، المصریة ،1988م
(7)بنکراد، سعید،  ، سیمیولوجیا الشخصیات السردیة   روایة الشراع والعاصفة حنا مینا نموذجًا، ط 1، عمان - الأردن، الناشر:مجدلاوی.2003م
(8)تودوروف، تزفیطان،   مقولات السرد الأدبی، فی کتاب، طرائق تحلیل السرد الأدبی، ترجمة: الحسین سحبان وفؤاد الصفا، ط 1، منشورات اتحاد کّتاب المغرب. 1992م
(9)الجنداری، إبراهیم،  ، الفضاء الروائی عند جبرا ابراهیم جبرا، بغداد، ط 1، 2001م
(10)جنیت، جیرار،  ،خطاب الحکایة - بحث فی المنهج، ترجمة: محمد معتصم، عبد الجلیل الأزدی، عمر حلمی، ط 2، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.1997م
(11)ا لحاجی، فاطمة سالم ،الزمن فی الروایة اللیبیة  ، ثلاثیة احمد إبراهیم الفقیه نموذجًا، ط 1، الدار الجماهیریة للتوزیع والنشر والإعلان، 1988م
(12)حافظ، صبری،   تکوین الخطاب السردی العربی _ دراسة فی سوسیولوجیا الأدب العربی الحدیث، ط 1، 2002م
(13)حسین، خالد،ه، شعریة المکان فی الروایة الجدیدة (الخطاب الروائی لإدوارد الخراط نموذجًا  ، صادرة عن مؤسسة الیمامة الصحفیة،1421هـ
(14)الرواشدة، سامح، إشکالیة التلقی والتأویل ، دراسة فی الشــعر العربی الحدیث، ط 1، منشورات أمانة عمان الکبرى.2001م
(15) الرواشدة، سامح،  منازل الحکایة ،دراسات فی الروایة العربیة ، ط 1دار الشروق للنشر-عمان. 1988م
(16) زاید، عبد الصمد ، المکان فی الروایة العربیة الصورة والدلالة، دار محمد علی، تونس. ، د.ت .
(17)سارتر، جان بول،  ، ما الأدب؟ ترجمة وتعلیق محمد غنیمی هلال، دار العودة، بیروت.1984م
(18)السامرائی، ماجد،  ، شخصیات ومواقف، الدار العربیة للکتاب، لیبیا، تونس، د.ت
(19)سماوی، أحمد ، فن السرد فی قصص طه حسین، کلیة الآداب والعلوم الإنسانیة،صفاقس ،.1978م
(20)سبول ، تیسیر ، (أحزان صحراویة) ، المکتبة العصریة ، بیروت ، 1967م
(21)ابن صالح، إبراهیم القصة القصیرة عند محمد تیمور، ط 1، دار محمد علی، تونس 2002م
(22)صالح، صلاح،  ، سرد الآخرالأنا والآخر عبر اللغة السردیة، ط1، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء.2003م
(23) طه وادی،  ، المدخل لدراسة الفنون الأدبیة واللغویة ، قسم اللغة العربیة، کلیة الإنسانیات والعلوم الاجتماعیة، جامعة قطر،، ط 1، نشر وتوزیع دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزیع ، قطر، الدوحة،1987م
(24)عبد السلام، عبد الرحمن،، فلسفة الموت والمیلاد- دراسة فی شعر السیاب،أبو ظبی، المجمع الثقافی.2003م
(25)العنانی، محمد، التصویر والشعر الانجلیزی الحدیث، مجلة فصول، مجلد 5 عدد 2، 1985م
(26) العید، یمنى ، تقنیات السرد الروائی فی ضوء المنهج البنیوی،ط 1،دار الفارابی   ،1990م  
(27)القاسم، سیزا احمد،  ، بناء الروایة - دراسة مقارنة لثلاثیة نجیب محفوظ)، الهیئة المصریة العامة للکتاب ،1984م
(28)القصراوی، مها،الزمن فی الروایة العربیة، ط 1، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، التوزیع فی الأردن، دار الفارس للنشر والتوزیع، عمان ،2004م
(29)لحمدانی، حمید،  ، بنیة النص السردی من منظور النقد الأدبی، ط 2، المرکز الثقافی العربی للطباعة والنشر والتوزیع ،  1993م
(30)محادین، عبد الحمید، التقنیات السردیة فی روایات عبد الرحمن منیــف،، ط 1المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، 1999م
(31)محادین، عبد الحمید، جدلیة المکان والزمان والإنسان فی الروایة الخلیجیة ، ط1، الثقافة والتراث الوطنی، وزارة الإعلام، دولة البحرین، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر 2001م
(32)ابن منظور، جمال الدین محمد بن مکرم،  ، لسان العرب، مجلد 6، الطبعة الثانیة، نسقه وعلق علیه: علی شیری، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، لبنان ، 2003م
(33) النابلسی، شاکر،جمالیات المکان فی الروایة العربیة، ط 1، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر،1994م.
(34)النصیر، یاسین،، الاستهلال فن البدایات فی النص الأدبی، ط 1، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد،.1993م
(35)هلال، محمد غنیمی، النقد الأدبی الحدیث ، مصادره الأولى، تطوره، فلسفاته الجمالیة، مذاهبه، القاهرة، دار مطابع الشعب   ، 1964م.
(36)الورقی، السعید، القصة والفنون الجمیلة، دار المعرفة الجامعیة، الاسکندریة ، 1991م
(37)الورقی، السعید،جمالیات الروایة - دراسة فی الروایة الواقعیة السوریة المعاصرة، دار الینابیع للطباعة والنشر، دمشق. ، 1991م
(38)الیافی، نعیم، ، الشعر بین الفنون الجمیلة، ط 1، دار الجیل، دمشق ، 1983م