الصورة الفنية فى شعر ابن النبيه المصرى

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم اللغة العربية

المستخلص

المبالغة فى شعر ابن النبيه المصرى مصدر للفعل بالغ، ويُراد بها الوصول إلى أقصى درجات توضيح وتوکيد وإثبات المعني، وهي "شکل من أشکال التحول الدلالي (SEMAMTIC SHIFT) يعتمد وسيلة التضخيم وتکثير المعنى يعتري الکلمة. وقد مرت المبالغة بمراحل خلافية بين البلاغيين من حيث تحديد موقعها من علوم البلاغة، أي من أقسام علم البديع أم المعاني، وهذا الخلاف ليس موضع النظر في البحث، وما يهم البحث هو تحديد مفهوم المبالغة ليکون منهجا في تحليل الصورة الفنية عند الشاعر ابن النبيه المصري. لقد اختلفت النظرة حول مفهوم المبالغة، فهناک من نظر إليها على أساس الربط بين الواقع والشعر وکأن الشعر محاکاة للواقع فرأوا في معنى المبالغة أنها "تجاوز في نعت ما للشيء أن يکون عليه، وليس خارجا عن طباعه إلى ما لا يجوز أن يقع له". ولذلک وجدنا المبالغة عندهم "تنحصر في التبليغ والإغراق والغلو، لأن المدعي للوصف من الشدة أو الضعف إما أن يکون ممکنا في نفسه أولا. الثاني هو الغلو. والأول إما أن يکون ممکنا في العادة أيضًا أولاً أو لا. الأول التبليغ، والثاني هو الإغراق" . جاء فهم الباحث للمبالغة انطلاقًا من الإيمان بأن الشاعر محور الإبداع، والمبالغة إحدى إبداعاته، وأن الأساس الذى ينبغى أن تقوم عليه المبالغة هو الصدق الفنى والشعورى وليس الصدق الأخلاقى الذى هو نقيض الکذب (53) ومن هنا وجد الباحث ملامح المبالغات فى ديوان الشاعر کما يلى :
1-ظهر الصدق الشعورى فى کثير من المبالغات التى جاءت متسقة مع طبيعة شخصية ابن النبيه المصرى التى تميل إلى الحياة السهلة، والمرح، والمتعة فکانت دافعًا لقريحته فى إبداعه الشعرى للإکثار من المبالغات فى مدحه لممدوحيه، وفى صوره الحربية، والغزلية، وأحيانا فى الفکاهة والمرح.
2- توارى صدق الإحساس، وبرز الإدعاء فى مبالغات أخرى فأصبحت کذباً على وجدان الشاعر محاولاً إقناع الآخرين وربما نفسه أيضًا بمبالغات فى صفات ممدوح يبتغى عنده منفعة مادية، کما فعل مع القاضى الفاضل عله يظفر بالعمل فى ديوان الإنشاء، والأمر نفسه مع الوزير الصاحب الصفى بن شکر، وتشيعه ظاهريًا لإرضاء الخليفة الناصر مما جعله يغالى مغالاة جعلت د/ محمد کامل حسين يتعجب منه کشاعر سنى قال ما لم يقله شعراء الدولة الفاطمية أنفسهم فى حکام وملوک الدولة الفاطمية الشيعية (54).
3- صدق وجدان الشاعر، واتسق مع فکره وذاته لکنه اصطدم بوجدان القارئ، والسامع المتذوق للشعر، وذلک من خلال مبالغات ظهر فيها التهاب وجدانه فى حبه للملک موسى الأشرف، وحبه للخمر، وتغزله بالغلمان، وفى الوقت ذاته نفر کثيراً من القراء والسامعين من حيث مجافاته لوجدانهم الدينى العقائدى، کأن يجعل جبل عرفات يطرب لمقدم موسى الأشرف، ويهتز له جبل الصفا والبيت الحرام، ويجعل الحجر الأسود يشکو شوقه لرؤية هذا الملک، وغير ذلک مما سبق تحليله فى الحديث عن مبالغات الشاعر، وهذا النوع من المبالغات يفقد الکثير من تأثيره فى کثير من القراء، فتصبح الصورة ضعيفة، فخيال القارئ والسامع غير قابل أن يعيش معها.
4- تأثر مبالغات الشاعر بروحه المصرية المرحة التى تميل إلى الفکاهة والمرح.

الكلمات الرئيسية


المبالغة فى شعر ابن النبیه المصرى مصدر للفعل بالغ، ویُراد بها الوصول إلى أقصى درجات توضیح وتوکید وإثبات المعنی، وهی "شکل من أشکال التحول الدلالی (SEMAMTIC SHIFT) یعتمد وسیلة التضخیم وتکثیر المعنى یعتری الکلمة.

وقد مرت المبالغة بمراحل خلافیة بین البلاغیین من حیث تحدید موقعها من علوم البلاغة، أی من أقسام علم البدیع أم المعانی، وهذا الخلاف لیس موضع النظر فی البحث، وما یهم البحث هو تحدید مفهوم المبالغة لیکون منهجا فی تحلیل الصورة الفنیة عند الشاعر ابن النبیه المصری. لقد اختلفت النظرة حول مفهوم المبالغة، فهناک من نظر إلیها على أساس الربط بین الواقع والشعر وکأن الشعر محاکاة للواقع فرأوا فی معنى المبالغة أنها "تجاوز فی نعت ما للشیء أن یکون علیه، ولیس خارجا عن طباعه إلى ما لا یجوز أن یقع له". ولذلک وجدنا المبالغة عندهم "تنحصر فی التبلیغ والإغراق والغلو، لأن المدعی للوصف من الشدة أو الضعف إما أن یکون ممکنا فی نفسه أولا. الثانی هو الغلو. والأول إما أن یکون ممکنا فی العادة أیضًا أولاً أو لا. الأول التبلیغ، والثانی هو الإغراق" .

وقد علق عبد الواحد علام على تلک الرؤیة قائلا: "لقد وضح من تعلیقه أن التبلیغ هو الذی لا یمتنع تحققه عقلا وعادة، والإغراق هو ما یمتنع وقوعه عادة ولا یمتنع عقلا. أما الغلو فهو ما یمتنع وقوعه عقلا وعادة" (4) وهی نظرة تحکمها القسمة المنطقیة، والتعامل بعیدا عن روح الفن؛ لأنها تحکم الشعر بالواقع فربطوا بین المبالغة ومصطلحی الصدق والکذب طبقا لما هو فی الواقع، وهناک فی المقابل من نظر إلى المبالغة نظرة فنیة تتفهم طبیعة النص الأدبی فنجد ابن قتیبة یرفض الربط بین المبالغة والکذب فیقول: "تقول العرب إذا أرادت تعظیم مهلک رجل عظیم الشأن، رفیع المکان، عام النفع، کثیر الصنائع: أظلمت الشمس له، وکسف القمر لفقده، ولکنه الریح والبرق والسماء والأرض، یریدون المبالغة فی وصف المصیبة به وأنها قد شملت وعمت، ولیس ذلک بکذب لأنهم جمیعا متواطئون علیه، والسامع له یعرف مذهب القائل فیه" (5).

وبناء على تلک النظرة الفنیَّة، قالت هدى فتحى عبد العاطى: "إذن بنیت المبالغة على اختیار معجمی یغلفه شکل نحوی ویظهر منه السیاق محددا أساسیا لدلالة المبالغة" (6) ولذلک نجد الشریف الرضی یدافع عن هذه النظرة فیرى "أن الشاعر لا یجب أن یؤخذ علیه فی کلامه التحقیق والتحدید، فإن ذلک متى اعتبر فی الشعر بطل جمیعه، وکلام القوم مبنی على التجوز والتوسع والإشارات الخفیة، والإیحاء على المعانی تارة من بُعد وأخرى من قُرب، لأنهم لم یخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق، وإنما خاطبوا من یعرف أوضاعهم ویفهم أغراضهم... ومن شأن العرب أن تجری على الشیء الذی قد کان یستحقه وقرب منه القرب الشدید فیقولون: قد قتل فلانًا هوى فلانة، ودله عقله، وأزال تمییزه، وأحرج نفسه، کل ذلک لم یقع، وإنما أرادوا المبالغة.. ونظائر ذلک أکثر من أن تُحصى" (7) وهنا تتحرر المبالغة من قید الواقع، ومن وصفها بالکذب. "لأن القوم أتوا بألفاظ االمبالغة صنعة وتأنقا، لا لتحمل على ظواهرها تحدیدا وتدقیقا، بل لیفهم منها الغایة المحمودة، والنهایة المستحسنة، ویترک ما وراء ذلک"(8) .

وهذا الفهم الأقرب لروح الشعر الذی یقوم فیه الشاعر بدور خلَّاق مبدع یجمع بین أشیاء ویُؤلف بین متضادات فیذیب ما بینها من تناقض لیخلق خلقا جدیدًا یعکس به رؤیته وأحاسیسه ومشاعره فالشاعر "یقصد التلطف والتأویل، ویذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق فی المدح والذم، والوصف والبث والفخر والمباهاة، وسائر المقاصد والأغراض، وهناک یجد الشاعر سبیلا إلى أن یبدع ویزید، ویبدیء فی اختراع الصور ویعید" (9).

إذن یظل الشاعر محور الإبداع، والمبالغة إحدى إبداعاته لذلک نرى فی هذا البحث "أن الأساس الذی ینبغی أن تقوم علیه المبالغة هو الصدق – لیس بالمعنى الأخلاقی الذی هو نقیض الکذب، وإنما الصدق بمعناه الفنی والشعوری – وفی هذه الحال تبرز أهمیة المبالغة على نحو لا یغنی عنها سواها، خاصة فی المواقف التی تستدعی إثارة الفکر والخیال والمزج فی الخطاب بین ما هو موجه إلى العقل والقلب" (10).

إن طبیعة شخصیة ابن النبیه المصری التی تمیل إلى الحیاة السهلة والمرح والمتعة کانت دافعا لقریحته فی إبداعه الشعری للإکثار من المبالغات، فالدیوان کثر فیه هذا الأسلوب من التعبیر، فنجده فی مدحه لممدوحیه، وفی صوره الحربیة والغزلیة، وأحیانا فی الفکاهة والمرح، وأبدأ بصورة المدح خاصة الملک الأشرف الذی أحبه کثیرا وأقام معه الشطر الأعظم من حیاته فملک حبه وجدانه، فکان یرى موسى الملک الأشرف بعینه المعجبة به، وبوجدان قد فنی فی حبه، ومن ذلک قوله:

یا بَـدْرُ تزْعُمُ أنْ تُقاسَ بِوَجْهِهِ

وَعَـلَى جَبینکَ کُلْفَةُ الْمُتَکَلِّفِ

یا غَیْـمُ تطْمَعُ أنْ تَکونَ کَکَفِّـهِ

کَلا وَأنْتَ مِنَ الْجهَام الْمُخلِفِ (11)

یا مَنْ إذا قِیسَ بِالبَدْرِ المُِنیِر فَقَدْ

جَنَى عَلَیْهِ الَّذِی بِالبَدْرِ سَاواهُ (12)

لقد رسم الشاعر صورة تبرز جمال وجه الممدوح المشرق، وعظمةعطائه، فجعل وجه الممدوح أعظم من جمال البدر فأصبحت محاولة البدر التشبه بوجه موسى مجرد زعم وإدعاءوهذا یقوی ویعظم من المبالغة فی تصویر جمال وجه موسى الذی فاق إشراق وجهه وروعته نقاء جمال البدر الذی تشوبه الکلفة، أما کرمه فقد فاق وتعدى خیر وعطاء الغیم فکان أعم وأنفع وأکثر صفاء؛ لأن کف موسى التی تقدم العطاء بیضاء صافیة بینما الغیم فیه من الجهامة ما یجعله أقل من موسى ولعل اختیار الغیم یدل على عبقریة الشاعر؛ لأن الغیم محل أنظار کل الناس فهو مصدر المطر الذی یحیا به الإنسان والحیوان والنبات فدائما تتطلع إلیه الأنظار، وتتلهف علیه القلوب والعقول، وهنا یتفوق علیه موسى فتکون المبالغة مؤثرة فی تصویر کرم وعطاء موسى الملک الأشرف، وتظهر عبقریة الصیاغة فی استخدام الشاعر کلمتی "تزعم"، و "تطمع" اللتین توحیان ببهتان حال البدر والغیم فی مقابل صدق وجه وکرم موسى، ومن ذلک أیضا قوله فی موسى:

یا بَرْقُ هذا مِنْکَ أصْدَقَ شیمَةً

یا غَیْثُ هذا مِنْکَ أحْسَن مَوْقَعِا

یا رَوْضُ هذا مِنکَ أبْهَجُ مَنْظَرا

یا بَحْرُ هذا مِنکَ أعْذَبُ مَشْرَعا

یا سَهْمُ هذا مِنک أصْوبُ مَقْصدا

یا سَیْفُ هذا مِنکَ أسْرَعْ مَقْطَعا

یا صُبْحُ هـذا مِنْکَ أَسْفَرُ غُرَّةً

یا نَجْمُ هذا مِنکَ أهْدى مَطْلَعا (13)

لقد وظف الشاعر الصیغة الصرفیة لاسم التفضیل فی کلمات "أصدق" و "أبهج" و"أصوب" و"أسفر" و"أعذب" و"أسرع" و"أهدى" لیعمق المبالغة التی عبرت عن إعجاب وحب للمدوح فکانت عین الشاعر تراه أقوى من البرق، وأکرم من الغیث، وأجمل من الروض، وأعذب من البحر، وأکثر دقة من السهم، وأسرع من السیف وأجمل إشراقا من الصبح وأهدى من النجم، وظهر إبداع الشاعر فی تکرار حرف النداء "یا" فشخص البرق والروض والصبح والغیث والبحر والسیف والنجم وکأنهم فی محفل أمام الناس والشاعر یعلن تفوق موسى علیه فأکسب الصورة الحیویة والتشویق زاد منه استخدام اسم الإشارة "هذا" لیستحضر صورة موسى أمامهم فتزداد الإثارة، وکذلک شبه الجملة "منک" لیجعل الخطاب مخصصًا محددًا، فیجعلنا نشعر ما یقوله الشاعر حقیقة لا مبالغة، وکان تصمیم الشاعر على تکرار النمط البنائی للأبیات، فیجعل الإیقاع الموسیقی مکررا فتعلو نغمته وتتسارع  الأنفاس مع ازدیاد الحماس من ذلک المشهد، فینجح الشاعر فی رسم صورة تصور عظمة "موسى" ویزیل من السامع أو القارئ الإحساس بالمبالغة فنشعر أن الصورة حقیقة فی صفات الممدوح فقد "بنیت المبالغة على اختیار معجمی یغلفه شکل نحوی ویظهر فیه السیاق محددا أساسیا لدلالة المبالغة" (14)، وفی صورة أخرى نجد الشاعر قد امتلأ قلبه إعجابًا بالملک الناصر حتى أنه تغلغل داخل نفسه فصور إحاسه حین یقدم العطاء قائلاً :

ملک یهش تلطفا بعفاته

فکأنه المستعطف المسترفد (15)

فالملک حین یعفو رقیق المشاعر، سریع الصفح، یبدو بابتسامة وجهه وبشاشته حین یصدر أمر العفو کأنه المستعطف الذی یتذلل لیطلب العطاء، فالمبالغة واضحة لأن من یصدر قرار العفو یکون قویا متفضلا ، لکن الشاعر رسم له صورة عکس ذلک، لیصور لنا تواضعه وسمو أخلاقه. لذلک کان من الطبیعی أن یرى الشاعر فی الملک الناصر صورة الکمال التی وهبه الله إیاها فجمع فیه کل الفضائل التی قسمها فی خلقه فیقول الشاعر :

نَظَمَ الله فیکَ فَضلَ أُناسٍ

کانَ فیهِمْ مُقَسَّمًا مَنْثورَا (16)

فإعجاب الشاعر بالملک الناصر جعله یبالغ بالوصول بالملک إلى صورة الکمال.

وسرى نفس الإحساس بالتعظیم والإعجاب إلى الحد الذی یتجاوز المألوف ویصل إلى الکمال فی وجدان الشاعر وهو ینظر إلى الملک العادل فیقول:

عَلیمٌ بِنـورِ الله یَنْظُـرُ قَلْبُهُ

 

فَلَمْ یُغْنِ أَسْرارَ القُلوبِ اسْتِتارُها(17)

فقد صور العادل قادرا على کشف المستور من القلوب، وهبه الله القدرة على اختراق المجهول وسبر أغوارالناس، فهو لا یحتاج أن یسمع من الناس خفایا قلوبهم لأنه قد علمها وکشفها، وهی صورة تبدو فیها المبالغة التی تکشف عظیم الحب والإعجاب بالممدوح، بعیدا عن الممکن عقلا وعادة، وبعیدا عن مدى مطابقتها للواقع، فالمبالغة هنا تخلق صورة وتصور مشاعر صاحبها "فمن أحسن المبالغة وأغربها عند الحُذَّاق: التقصى وهو بلوغ الشاعر أقصى ما یمکن من وصف الشىء" (18) وقد ظهر حب الشاعر لآل أیوب فی دیوانه بدءا بالملک الناصر ثم الملک العادل ثم الملک الأشرف موسى فعبر عن تعظیمه وإعجابه لبنی أیوب قائلا :

تَنْبُو الْمَسامِعُ عَنْ مَدیحِ سِواهُمُ

إْذ کَانَ أکْثَرُهُ حَدیثاً یُفْتَرَى (19)

فرسم الشاعر صورة لعبت فیها المبالغة دور العماد، فجعل کل المسامع ترفض سماع مدائح عظماء إلا بنی أیوب فهم العظماء حقًا، أما مدائح الآخرین کذب وافتراء، وجاءت المبالغة فی دیوان الشاعر لتعبر عن الحماسة فی الحرب فیرسم صورة للملک الأشرف ولجیشه وتصور مواقف الرعب والفزع والهول منها قوله :

مَلیکٌ یَخُوضُ الْجَیْشُ ضَرْباً بِسَیْفِهِ

وَما زالَ موسى بِالعَصا فالِقَ الْبَحْرِ

عَلیم له سَهْمٌ مِـنْ الغَیْبِ صائِـبٌ

وَما کُلُّ موسى مُسْتَمِد مِنَ الخضْر

َکریم ُیحَیَّـا بِشْرُهُ قَبْـلَ جُــودِهِ

وَلِلْبَـرْقِ لَمْـعٌ بَعْدَهُ وَابِـلُ الْقَطْـرِ

سَیَمْلِکُ أقْصَى الأرْض بُشْرى ضَمانُها

عَلى الرَّأیِ وَالرَّایاتِ وَالنَّصْلِ وَالنَّصْر

وسمر أَجادَتْ صَنْعَة النَّظْم فی الْکُلى

وَبیضٍ أجادَتْ فِی الطُّلى صَنْعَة النَّثرِ

وَجیشٍ لَعْینِ الشَّمْسِ کُحلٌ بِنَقْعِهِ

إذا رَمَدَتْ مِنْ لَمْـعِ أسْیافِهِ البُتْرِ

وَأُسْدٍ عَلى جُرْدٍ لَهَا مِثْلُ صبرهِمْ

إذا مَا تَجَلَّى المَوْتُ فِی الحُلَلِ الحُمْرِ

دِماءُ أعادیهِم شَرابُ رِماحِهِـمْ

وَأجْسامُهُمْ هَدْیٌ إلى الذِّئْبِ وَالنَّسْرِ (20)

فالشاعر یصور قوة الملک الأشرف موسى من خلال المقارنة بینه وبین نبی الله موسى حین ضرب البحر بعصاه فانفلق البحر ونجا وأصحابه، وکأنه أراد أن یعطی موسى الأشرف قوة نبی الله موسى مضافا إلیه قوة هی الفارق بین ضرب السیف وضرب العصا، ثم أکد هذه القوة حین صوره یحمل سهما من الغیب وأى قوة یمکن تخیلها لإنسان یحمل هذا السهم، ثم جعل نتیجة تلک القوة أن بشرى انتصاراته تصل إلى الأعداء قبل وجوده، فتقذف الرعب فی قلوبهم والفرحة فی قلوب مؤیدیه ولتأکید ذلک جعل وجوده مدمرًا کالبرق بینما اللمعان الذی یسبق البرق هی البشرى التی تسبق وجوده، ثم بالغ حین صور النصل بیده صانعا یجید نظم الکلى، فتخطى مرحلة القتال، فأصبح ناظما حلیا فی کلى الأعداء وهی ثقة فی القوة والنصر، وسیوفه تتولى صنعة نثر أعناق الأعداء، وغبار جیشه کحل لعین الشمس التی رمدت من شدة بریق ولمعان أسیافه، کما جعل دماء الأعداء شرابا تروى به رماح جنوده الظمأى أجساد الأعداء فهی هدایا تقدم للذئاب والنسور، وهی صورة فیها من المبالغة ما یعکس إعجاب وتعظیم الشاعر لقوة الملک وجیشه، کما تعکس هول ما یجری للأعداء على یدیه وجنوده من قتل وتدمیر ورعب وخوف ، وهذا النوع من المبالغة یقول عنه جابر عصفور : "إذا کانت الصورة تساهم فى عملیة إقناع المتلقى ، والتأثیر فیه عن طریق شرح المعنى وتوضیحه ؛ فإنها تحقق الغایة نفسها عن طریق المبالغة فى المعنى. والصلة بین المبالغة والشرح والتوضیح صلة وثیقة ، ذلک أن المبالغة تُعَدُّ وسیلة من وسائل شرح المعنى وتوضیحه ، عندما یُراد بها مجرَّد توصیل المعنى أو تأکید بعض عناصره الهامة" (21).

وعلى جانب آخر نجد المبالغة فی دیوان ابن النبیه المصری تأخذ منحنى یتوارى فیه صدق الإحساس ویبرز فیه الادعاء، فتصبح المبالغة کذبا على الشعور الداخلی للشاعر لا على الواقع المرئی المحسوس، فیحاول الشاعر أن یقنع نفسه والآخرین، بمبالغات فی ممدوح یبتغی عنده منفعة مادیة، فیتخذ من المبالغات طریقا لذلک، ومثال ذلک قوله فی القاضی الفاضل الذی تفانى فی التقرب إلیه دون جدوى لیحظى برضاه حتى یلحقه بدیوان الإنشاء:

أنا عَبْدٌ لِلفاضِل بن عَلی

قَد تَبَتَّلْتُ لِلثَّنا تَبْتِیلَا

لَا تَسُمْهُ وَعْداً بِغَیْرِ نَوال

إنَّهُ کَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولَا (22)

لقد تهالک الشاعر ، وانحط بذاته إلى حد العبودیة للقاضی الفاضل؛ لیعظم من شأن ممدوحه فینال رضاه، ولأن المنفعة هی المحرک للنظم فقد توارى الوجدان، وانطلق الشاعر بلا عنان فمنح الممدوح متبتلا فی مدحه ما اختص الله به نفسه جلا وعلا فی قوله تعالى: "وَٱذۡکُرِ ٱسۡمَ رَبِّکَ وَتَبَتَّلۡ إِلَیۡهِ تَبۡتِیلٗا" (23) ، وانطلق به عنان النظم والادعاء فجعل وعد القاضی أمرًا مفعولاً ناسیًا أن هذه الصفة من القدرة اختصَّ رب العالمین نفسه بها قائلا:  "ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرُۢ بِهِۦۚ کَانَ وَعۡدُهُۥ مَفۡعُولًا" (24) ، فالبیتان اعتمد الشاعر فیهما على الأسلوب الخبری وکـأنه یقف أمام وکیل للنیابة فیسأله من أنت؟ فیجیب بجواب یلحق فیه نفسه بمن یثبت به وجوده، ویجعل السائل یتقبله، واعتمد على الاقتباس من القرآن لیجعل تقریره مؤثرا قویا فینال رضا الممدوح بمنحه صفات تفوق قدرات البشر، وهذا النوع من الصور غریب على دیوان الشاعر الذی یأتی مفعما بالخیال والحیویة، أما ما أراه من جمود فی البیتین وسطحیة فی الاقتباس تجعلنی أرى أن هذین البیتین قد خلا من الوجدان الصادق، فجاءت المبالغة کاذبة شعوریًا وفنیًا "فافراط الشاعر فى تحقیق الجدِّة لصوره قد یوقعه فى الغرابة غیر الفنیَّة والتطرُّف فى التقاط عناصر غیر مألوفة لتحقیق الصیاغة المدهشة والمخیِّبة لتوقعات القارىء حتَّى ولو أدَّى ذلک إلى الافتراء على الشعر بکلام عابث لاهٍ یفتقر إلى قیمةٍ موضوعیَّةٍ أو فنیَّةٍ" (25)

وهذا الأسلوب فی المبالغة تکرر من الشاعر فها هو یمدح الصاحب الصفی بن شکر – رحمه الله – فیقول :

قُلْ لِرَائِیْهِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّـ

ـاسِ هذَا الوَزیرُ رَبُّ النَّاسِ (26)

فالشاعر أراد أن یحصن الصاحب بسورة "الناس" خوفا علیه من الحسد، مادحا إیاه بأنه رب الناس أی وزیرهم ومدبر شئونهم والمسئول عنهم، لکنه اعتمد على الاقتباس من سورة "الناس" ولم یحسن توظیفه فنیا، فقد أعطى قارئ وسامع البیت انطباعًا بأنه یصف الوزیر بما اختص الله نفسه فی قوله تعالى: "قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ١ مَلِکِ ٱلنَّاسِ"  (27) ، ولا یشفع له قصده من قوله "رب الناس" أنه وزیرهم والمسئول عنهم.لأن هذا الاقتباس قد عمل على استحیاء معنى راسخ فی الوجدان بأن الله هو الحامی والحصن لکل إنسان؛ لأنه رب الناس جمیعًا ، مثل هذه الصور "أصبحت صفةً نفسیَّةً أکثر منها أداةً من أدوات صیاغته الشعریَّة" (28). ومن ذلک قوله فی علم الدین ولد الصاحب حین وقف على عمارة المدرسة:

خَرَجْتَ لِتَرتِیبِ الِبناء فَلَو رَأَى

سُلَیمانُ ما شَیَّدْتَهُ قَالَ لا أَقْوَى

فَکَم بُنِیَت مِنْ قَبْلِها مِنْ مَدارِسٍ

وَلَکِنَّهُمْ مَا أسَّسوهَا عَلى التَّقْوَى(29)

لقد أراد الشاعر إبراز عظمة البناء، وقوة علم الدین وإبداعه فی بناء المدرسة، وإظهار تقواه معتمدا على صیغة الإخبار بالماضی "خرجت" فبدا وکأنه یعترف للمدوح بعمله وهذا إضعاف من قیمة العمل، فالمفترض أن عمله ظاهر لا یحتاج إلى إخبار أو إعلان، ثم قارن بین علم االدین ونبی الله سلیمان، لیجعل التفوق لممدوحه فیعظم من شأنه، لکن الأمر جاء علس ما أراد لأن نبی الله أُمِدَّ بقوة أعلى من طاقة البشر فقام بما لا یستطیعه البشر، وقیمة ما بناه نبی الله أعظم مما بناه علم الدین وهذه المعانی راسخة فی وجدان کل مسلم قرأ القرآن وعرف قصة نبی الله سلیمان u ، لذلک لن یقع نظم الشاعر موقع التصدیق فی قلب من یسمع أو یقرأ نظمه، ولم ینفع الشاعر استخدامه حرف الشرط "لو" الذی یفید امتناع الجواب لامتناع الفعل فیقال إن نبی الله سلیمان u لم یر البناء ولذلک لم یقل: "لا أقوى" لأن هذا أیضا یؤکد أن الشاعر لم یقصد سوى نظم الکلمات بجوار بعضها البعض، ولم یعبر عن إحساس صادق أراد من کل سامع وقارئ أن یصدقه، وفی البیت الثانی فشل فی المقارنة بین بناء علم الدین لتلک المدرسة، وما بُنی قبله من مدارس لأنه حین أراد تعظیم عمل علم الدین ونعته بالتقوى، فإنه على جانب آخر قلل من شأن کل أمراء وملوک الدولة الأیوبیة وعلى رأسهم صلاح الدین الأیوبی وممدوحه المفضل الملک موسى الأشرف، فأمراء بنی أیوب قد اشتهر عهدهم ببناء المدارس، وما حققوه من نهضة علمیة وثقافیة، وهذا یجعل من یسمعه أو یقرأ له یدرک أنه ما نظمه فی علم الدین لا یتعدى حد المجاملة دون التعبیر عن إعجاب صادق فتعظیم الشاعر لدولة بنی أیوب لا یخفى على أحد ألیس هو القائل فی الملک موسى الأشرف:

فإنْ شِئْتَ لِلأُخرى فَمِحْراب ناسکِ

وَإنْ شِئْتَ للِدُّنْیا فَرَیْحانَةُ الْعُمْرِ

وَإنْ جُمِعا فَاللهُ مـا زالَ جامِعـا

شَتیتَ العُلْى لِلأَشْرَفِ بِنِ أبی بَکْرِ (30)

فکیف یکون إذن تفرد بناء مدرسة علم الدین بالتقوى على غیره ؟

   وفی دیوان الشاعر ابن النبیه بعض المبالغات التی تجعلنا نصفها بالمغالاة والکذب، وأعنی کذبه على نفسه وتزویر وجدانه، لأن ابن النبیه کما وصفه محمد کامل حسین بأنه "شاعر سنی فی دولة أطاحت بالدولة الشیعیة، وحاولت أن تمحو من البلاد العقیدة الشیعیة (31) ، فنراه یتقمص شخصیة شاعریة شیعیة وهو یمدح الملک الناصر لا لشیء سوى أنه علم میول هذا الملک إلى التتشیع (32) ، فیقول فی مدح الملک الناصر :

بَغْدَادُ مَکَّتُنـا وَأَحْمَـدُ أحْمَـدُ

حُجُّوا إلى تِلْکَ المناسِک واسجُدوا

یَا مُذْنِبینَ بِها ضَعُوا أَوْزارَکُمْ

وَتَطـَــهَّرُوا بِتُرابِها وَتهَجَّدُوا

فَهُناکَ مِنْ جَسدَ النُّبُوَّةِ بَضْعَةٌ

بِالْوَحـی جِبْریلٌ لَهــا یَتَـرَدَّدُ

بَابُ النَّجَاةِ مَدینَةُ العِلْمِ الَّتـی

مـا زالَ کَوْکَبُ هَدْیهـا یَتَوَقَّـدُ (33)

فالشاعر أراد أن یمدح بغداد ویعطیها مهابة وجلاله کما تتمتع بها "مکة" المکرمة، ویصف الملک الناصر بالتقوى والصلاح کصفات نبی الله "أحمد ﷺ" ، وأراد أن یصفه بالعلم، لکنه أراد لمدحه الإعجاب من ممدوحه والتمکن من قلبه فجنح عن فکره ووجدانه کشاعر سنی لیسلک منهج الشعراء الفاطمین، بل أراد التفوق علیهم بأن یقول ما لم یقله شاعر فاطمی شیعی فکذب على نفسه وجاء قوله ملیء بالمغالاة، فالشطر الأول من البیت الأول هو نفسه رأی الفاطمین فی عقیدة الأدوار...، والحج فی الشطر الثانی من البیت الأول وکل البیت الثانی هو نفسه رأی الفاطمین فی الحج الباطنی، وعجیب أن یذهب الشاعر إلى أن الخلیفة العباسی الناصر بضعة من جسد الرسول ﷺ، لأنه لیس من نسل الرسول ﷺ، والحدیث النبوی یقول "فاطمة بضعة منی"، ولکن مبالغة الشاعر وغلوه فی المدح جعل الخلیفة الناصر من أبناء فاطمة مثله فی ذلک مثل أئمة الشیعة .

وکذلک قوله "مدینة العلم" التی جعلها النبی ﷺ لنفسه دون سواه فقال أن ﷺ "أنا مدینة العلم وعلى بابها" وشعراء الشیعة لم یذهبوا إلى أن علیا أو أحد أبنائه "مدینة العلم" ولکن الشاعر السنی أبى إلا أن یجعل الخلیفة الناصر فی مقام النبی نفسه (34) .

وعلى نفس هذا النهج الذی یکشف کذب وجدان الشاعر، ورغبته الملحة فی الوصول إلى ممدوحه من الطریق الذی یجعله یصل إلى قلبه وعقله جاء قوله فی قصیدة أخرى لمدح الملک الناصر حیث یقول :

لَهُ عَلى سِرِّ سِتْرِ الغَیْبِ مُشْتَرَفٌ

فَمــا مَوارِدُهُ إلا مَصـادِرُهُ

تَقْضِی بِتَفْضیله ساداتُ عِتْرَتِهِ

لَو کانَ صادِقُهُ حَیَّا وَباقِـرُهُ

کُلُّ الصَّلاةِ خِداجٌ لا تَمامَ لَهـا

إذا تَقَضَّتْ وَلَمـْ یَذْکُرْهُ ذَاکِرُهُ

کُـلُّ الکَلام قَصیرٌ عَـن مَناقِبِهِ

إلَّا إذا نَظَـمَ القُرآنَ شاعِـرُهُ

رَأَیْت مَلکاً کَبیرا فَـوْقَ سُدَّتِـهِ

جِبْریلُ داعِیه أو میکالُ زَائِرُهُ (35)

فابن النبیه فی هذه الأبیات یرى أن الخلیفة الناصر من نسل رسول الله، ... فإذا کانت هذه هی نظرة ابن النبیه إلى الخلیفة العباسی فلا غرو أن نراه یصف هذا الخلیفة بالصفات التی قالها الشیعة فی أئمتهم فهو إذن الشفیع یوم القیامة، ویکرر المعنى فی قصیدة أخرى فیقول :

بِوَلائـى أمِنْـتُ مِــن سَیَّئاتِى         حین أَلْقَـى کِتابِى المَنْشُوَرا (36)

بل یذهب فی الغلو إلى مدى أبعد مما ذهب إلیه شعراء العصر الفاطمی إذ نسب إلى الخلیفة العباسی معرفة الغیب وکرر هذا المعنى فذکره فی هذه القصیدة...، فبینما طعن علماء السنة على أئمة الفاطمین بأنهم یدعون معرفة الغیب وتبرأ الفاطمیون من هذه المقالة وممن قال بها، نرى ابن النبیه یلصقها بالخلیفة العباسی، ویذهب ابن النبیه إلى أن أئمة الشیعة، وخاصة جعفر الصادق ومحمد الباقر بن علی زین العابدین، لو کانوا أحیاء لقدموا الناصر العباسی علیهم، ونلاحظ أنه خص جعفر الصادق والباقر دون غیرهما أولا: للضرورة الشعریة فی القافیة الرائیة، وثانیا: لأن جل علوم الشیعة إنما رویت عن طریقهما. ثم یعود ابن النبیه إلى عقیدة الفاطمین التی تذهب إلى أن الصلاة لا تقبل ما لم یصل على الأئمة، فالشاعر هنا أخذ هذه العقیدة ونظمها مستعملا ألفاظ الفقهاء فزعم أن الصلاة خداج إن لم یکن بها الصلاة على الناصر... وختم الشاعر هذه القصیدة بأن الناصر ملک کبیر وأن جبریل داعیته وأن میکائیل زائره، وهذه من المعانی الباطنیة الإسماعیلیة التی لم یقل بها سوى الإسماعیلیة وذلک أن تأویل الملائکة على الدعاة والحجیج" (37) .

   وعلى جانب ثالث نلمح خصیصة للمبالغة کثر وجودها فی دیوان ابن النبیه، تلک التی یصدق فیها انفعال الشاعر لکنها تصطدم بوجدان القارئ والسامع فلا نملک إزاءها إلا أن نشعر فیها بوجدان ملتهب، لکن لا نستطیع تردیدها لأنها تتعارض مع وجداننا، ومن ذلک قوله فی مدح موسى الملک الأشرف :

طَرِبَتْ لَهُ عَرَفاتُ وَاهْتَزَّ الصَّفا

وَالبَیْتُ مَعْ أرْکانِهِ وَحَجونِهِ

لَوْ کانَ لِلْحَجَرِ الشَّریفِ فَمٌ شَکا

ما عِنْدَهُ مِنْ شَوقِهِ وَحَنِینْه (38)

   فالشاعر معجب محب للملک موسى الأشرف، فیراه مثالا للصلاح والعظمة حتى أن جبل عرفات یطرب لمقدمه والصفا یهتز له، والبیت الحرام وحجونه یهتزان سعادة بوجوده، والحجر الأسود یشتاق لزیارته، صورة تظهر الممدوح فی أسمى الدرجات من الإیمان والتقوى فالمبالغة تعکس حبا صادقا من صدیق لصدیقه، ومحب لحبیبه، لکنها تواجه رفضا من وجداننا نحن – معشر القراء – فکیف لنا أن نتقبل صورة البیت الحرام یهتز إعجابا وحبا وشوقا لملک وصفه الشاعر من قبل بأنه أخ للذات فی شرب الخمر ومداعبة الغلمان فیقول :

طابَ الصَّبوحُ لنا فَهاکَ وَهَاتِ

وَاشْرب هَنیئاً یا أَخا اللَّذَّاتِ

کَمْ ذا التَّوانِی وَالشَّبابُ مُطاوِعٌ

وَالدَّهْرُ سَمْحٌ وَالحَبیبُ مُوَاتِی (39)

ومن هذا النوع قوله فی مدح الملک الأشرف :

َتنَزَّهَتْ أفْعَالُهُ فَهْوَ عَنْ

مَــا یُمْدَحُ النَّاس بِهِ أرْفَعُ

مُبْتَکِرٌ لِلَمجْدِ ، مُدَّاحُهُ

تَبْتَکِرُ الْمَدحَ الّذی تَصْنَعُ (40)

فالشاعر مفتون بحب الملک موسى الأشرف، فیرى أفعاله وإنجازاته بلغت من الروعة حتى أنها ابتکرت طرقا جدیدة للمجد غیر معهودة، مما جعل المداح یبتکرون مدائح تلیق به وبأفعاله، ویراه لا یخطیء فهو منزه عن الخطأ، وکل المدائح التی تنظم فیه عاجزة عن وصف حقیقة أفعاله، فقد بلغ مرحلة رفیعة بها من السمو ما یصعب على الشعراء وصفها، ولا شک أنها مبالغة من الشاعر فی مدح ملکه تعکس وجدانه المفعم بحبه، لکن هذه الصورة تصطدم مع وجدان القارئ الذی لا یستطیع أن یشعر أو یرى منزها عن الخطأ سوى الله سبحانه وتعالى، ومن ذلک قوله :

یا مَنْ عَلى کَرَمِ الطِّباعِ یَلومُهُ

ما لُمْتَ إلَّا الله فی تَکْوینِهِ

الله أهَّـلَـهُ لِرَحـْمَـةِ خَلْقهِ

وَصَلاح دُنْیاه وَرَحْمَةِ دِینِهِ

ما کُلُّ مَنْ صَنَعَ الْجَمیلَ مُوفَّقٌ

کَلّا وَلا رَبُّ السَّما بَمُعینِهِ(41)

الشاعر معجب بأخلاق وطباع الملک موسى، الذی أهله الله وجعله مکتمل الأخلاق لیجعل منه رحمة للناس وصلاحا للدنیا وخیرا للدین، وهی مبالغة تعکس حب وإعجاب الشاعر بممدوحه، لکنها لا تناسب وجداننا الذی لا یتقبل لوما لله فهو مالک الملک، یخلق ما یشاء کیف یشاء. ومنها قوله :

تَلَقَّاهُ مِن بُعدِ المَسَافةِ أهْلُها

فَذا رافِع کَفّا وَذا ساجِد شُکْرا (42)

ومن مثل تلک المبالغات التی تکشف حبه وتصطدم مع وجداننا قوله :

فَکَمْ فَلَقَتْ حَمْلاتُهُ بَحْرَ جَحْفَلٍ

وَلَیْسَ عَصا موسى سِوى سَمْهَریِّهِ

کَریمٌ لَوَ أنَّ الْغَیْثَ طَلْقٌ کَوَجْهِهِ

لَأْغنى الْوَرى وَسْمِیُّه عَنْ وَلیِّهِ (43)

إن إعجاب الشاعر بقوة الملک موسى الأشرف، ووجیشه الذی یفلق الجیوش الجرارة ویهزها، وللمبالغة جعل عظمة عصا سیدنا موسى مجرد سمهری فی یده. وإذا کان الأمر کذلک فما بالنا بقوته وقوة جیشه؟ وجعل کرم الملک أعظم شأنا من الغیث فلو أن الغیث کریم مثل موسى لأغنى کل الناس، نجح الشاعر فی رسم صورة مبالغة فی وصف الملک فیها بالقوة والکرم، لکن وجدان عامة الناس یأبى تصور موازنة بین الملک الأشرف ونبی الله موسى، لذلک لا یقبل تفضیله على نبی الله ، وهذا النوع من صور "المبالغة ربما أحالت المعنى ، ولبَّسته على السامع ، فلیست لذلک من أحسن الکلام ولا أفخره ؛ لأنها لا تقع موقع القبول کما یقع الاقتصاد وما قاربه ؛ لأنه ینبغى أن یکون من أهم أغراض الشاعر والمتکلِّم أیضًا الإبانة والإفصاح ، وتقریب المعنى على السامع" (44) ومن ذلک قوله :

عَزیزٌ یُوسُفیُّ الْحُــسـ

ــنِ لَمْ یُشْرَ وَلمَْ یُسْجَنْ

قَـدِ اْبیَضَّـتْ بِـهِ عَیْنِی

وَللمَهْجـورِ أن یَحْــزَن (45)

وقد کرر هذه المقارنة بقوله :

موسى الکَرِیم وَشانِیهِ الکلِیمُ فَما

تَقُولُ وَاللهُ نَجَّاهُ وَناجَاهُ (46)

لقد تمکن حب وإعجاب ابن النبیه للملک موسى الأشرف، فأصبح یراه فی جماله وبهائه کنبی الله یوسف علیه السلام، بل بالغ وجعله یفضل نبی الله لأنه لم یبع ولم یسجن کما حدث لنبی الله یوسف، وتمکن الحزن من الشاعر بسبب هجر الملک له فابیضت عیناه، کما ابیضت عین سیدنا یعقوب على فراق ابنه یوسف، وهی مبالغة تبرز حب وإعجاب الشاعر بممدوحه وألمه حین یفارقه لکنها مبالغة صادقة لمشاعر کل من قرأ قصة سیدنا یوسف نظرا لاختلاف الجو النفسی، فموقف نبی الله یعقوب وابنه یوسف یثیر فی النفس من المعانی الإیجابیة والدینیة ما یخلق جوا روحانیا یدعو إلى التدبر والإیمان بالله وبقدرته، بینما الجو النفسی الذی یعیشه الشاعر مع مملوکه مغایر لذلک فهو جو ملیء بالمدح واللذة وطیب الجوار، ومحاولة الشاعر استحیاء المعنى التراثی الراسخ عند قراءة قوله تعالى:

"وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۢ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَة ٖ وَکَانُواْ فِیهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِینَ"(47)، وکذلک قوله تعالى: "وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ یَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ یُوسُفَ وَٱبۡیَضَّتۡ عَیۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ کَظِیمٞ"(48)، لا یساعد على الإیحاء بمدى حب الشاعر للملک الأشرف لذلک أرى مبالغة الشاعر واقتباسه لم یساعداه على امتاعنا بصدق وجدانه وحبه للملک، وقد کرر الشاعر تلک المقارنة الصادمة فی قوله :

فی حُسْنِ یُوسُف إلا أنَّهُ مَلِکٌ

فَمـا یُباعُ بِبَخْسِ الَّقْدِ مَعْدود (49)

ومن ذلک النوع صورة غزلیة یقول :

لها مِعْصَمٌ لَوْلَا السِّوارُ یَصُدُّه

إذا حَسَرَتْ أَکْمَامها لَجَرَى نَهْرا

دَعَتْنِی إلى السُّلْوان عَنهُ بِحُبِّها

وَما کُنت أَرضَى بَعْدَ إیْمانِی الکُفْرا (50)  

الشاعر مفتون باللذة محب لجسد محبوبته، التی فشلت فی إقناعه بالانشغال عن جسدها بحبها، لأنه أبى العدول عنه، وکأنه یرفض الکفر بعد الإیمان، وأرى أن الشاعر له الحریة فی کیفیة الحب لکنه نفر کثیرا ممن یحبون شعره من تلک الصورة لأن النقلة النفسیة أحدثت فجوة کبیرة بین إحساسنا بحبه الجسدی الذی ربما یحلو لنا وربما أیضا یجعلنا نسیر معه فی تخیل ذلک الجمال الذی یثیر الوجدان بعد العیون وبین تذکیرنا بجو الإیمان الذی یثیر فینا الخشیة والاحتشام ویتطلب منا غض البصر، ولن یشفع له قولنا أنه یقصد الإیمان بجمالها، والکفر جحود بهذا الجمال؛ لأن استخدام الطباق بین کلمتی الکفر والإیمان یستدعیان دوما معانی الإیمان العقائدی بالله فی مقابل من کفر به، فالمبالغة جاءت صادقة فی التعبیر عن وجدانه المفعم بحب اللذة. ویرى الباحث أن هذه المبالغة تعد دلیلا عن أن ابن النبیه لم یلتفت إلى شاعریته وحرمنا من إبداع موهبة کان بإمکانها أن تبدع أفضل مما کان، لکن الشاعر أبى ذلک وقید شاعریته بقید اللذة والمتعة فی مجالس الملک الأشرف وانشغاله بإرضائه بأشعار جاء الکثیر منها فی المدح عرفانا بجمیله ورد أفضاله لممدوحه، وتارة فی الغزل أو وصف الخمر لنفس الغرض سعیا وراء إرضاء ممدوحه.

   وعلى جانب رابع تمتزج  مبالغة ابن النبیه بروحه المرحة المصریة التی تمیل إلى الفکاهة، فیقول:

شَوَّالُ ِمثْلکَ مُطْعِمٌ فَلأَجلِ ذا         

أَضْحى لَهُ فَضْلٌ على َرمَضانِ(51)

 

 

 

 

 

لقد بالغ الشاعر فجعل شهر شوال أعلى مکانة من شهر رمضان الذی نزل فیه القرآن وکان موضع الفضل لشهر شوال أن الناس تستطیع فیه الطعام بینما شهر رمضان یعانی فیه الشاعر من الحرمان طوال نهار شهر رمضان وهی مداعبة من الشاعر تبرز میله للذة والمتعة وعدم تحمله عناء الصوم، ومن ذلک قوله:

کَمْ ْلَیْلَةٍ أَحْیَیْتُهَا کُلَّمَا

قًلْتُ انْتََهَتْ فی طُولِها تَبْتَدِی

قَالَ دُجاها لِجُفونِی لَقَد

شَغَلْتِ عَنِّی فَرْقَدِی فَارْقُدِی (52)

یصف الشاعر جمال محبوبته فی إحدى لیالی متعته، فجعل دجى تلک اللیلة یشکو، ویتوسل إلى جفون الشاعر طلبا منها النوم لأنها شغلت عنه نجمه فالمحبوبة ترکت لیلها وارتمت فی أحضان الشاعر.

 


النتائج:

جاء فهم الباحث للمبالغة انطلاقًا من الإیمان بأن الشاعر محور الإبداع، والمبالغة إحدى إبداعاته، وأن الأساس الذى ینبغى أن تقوم علیه المبالغة هو الصدق الفنى والشعورى ولیس الصدق الأخلاقى الذى هو نقیض الکذب (53) ومن هنا وجد الباحث ملامح المبالغات فى دیوان الشاعر کما یلى :

1-ظهر الصدق الشعورى فى کثیر من المبالغات التى جاءت متسقة مع طبیعة شخصیة ابن النبیه المصرى التى تمیل إلى الحیاة السهلة، والمرح، والمتعة فکانت دافعًا لقریحته فى إبداعه الشعرى للإکثار من المبالغات فى مدحه لممدوحیه، وفى صوره الحربیة، والغزلیة، وأحیانا فى الفکاهة والمرح.

2- توارى صدق الإحساس، وبرز الإدعاء فى مبالغات أخرى فأصبحت کذباً على وجدان الشاعر محاولاً إقناع الآخرین وربما نفسه أیضًا بمبالغات فى صفات ممدوح یبتغى عنده منفعة مادیة، کما فعل مع القاضى الفاضل عله یظفر بالعمل فى دیوان الإنشاء، والأمر نفسه مع الوزیر الصاحب الصفى بن شکر، وتشیعه ظاهریًا لإرضاء الخلیفة الناصر مما جعله یغالى مغالاة جعلت د/ محمد کامل حسین یتعجب منه کشاعر سنى قال ما لم یقله شعراء الدولة الفاطمیة أنفسهم فى حکام وملوک الدولة الفاطمیة الشیعیة (54).

3- صدق وجدان الشاعر، واتسق مع فکره وذاته لکنه اصطدم بوجدان القارئ، والسامع المتذوق للشعر، وذلک من خلال مبالغات ظهر فیها التهاب وجدانه فى حبه للملک موسى الأشرف، وحبه للخمر، وتغزله بالغلمان، وفى الوقت ذاته نفر کثیراً من القراء والسامعین من حیث مجافاته لوجدانهم الدینى العقائدى، کأن یجعل جبل عرفات یطرب لمقدم موسى الأشرف، ویهتز له جبل الصفا والبیت الحرام، ویجعل الحجر الأسود یشکو شوقه لرؤیة هذا الملک، وغیر ذلک مما سبق تحلیله فى الحدیث عن مبالغات الشاعر، وهذا النوع من المبالغات یفقد الکثیر من تأثیره فى کثیر من القراء، فتصبح الصورة ضعیفة، فخیال القارئ والسامع غیر قابل أن یعیش معها.

4- تأثر مبالغات الشاعر بروحه المصریة المرحة التى تمیل إلى الفکاهة والمرح.

أ ) المصادر:
1- جلال الدین السیوطى، تاریخ الخلفاء ، تحقیق/ محمد محیى الدین عبدالحمید ، الطبعة الأولى ، 1952م .
2- الخطیب جلال الدین القزوینى، الإیضاح فى علوم البلاغة، حقق وعلق علیه وفهرسه عبدالحمید هنداوى، مؤسسة المختار للنشر والتوزیع، القاهرة، 1425هـ/2004م .
3- ابن رشیق القیروانى، العمدة فى محاسن الشعر وآدابه ونقده ، تحقیق/ محمد محیى الدین عبدالحمید ، دار الجیل ، بیروت ، 1401هـ/1981م .
4- الشریف الرضى، أمالى المرتضى، تحقیق/ محمد أبو الفضل إبراهیم، القاهرة، 1373هـ/1954م .
5- عبدالقاهر الجرجانى، أسرار البلاغة، قرأه وعلق علیه/ محمود محمد شاکر، الناشر دار المدنى بجدة، الطبعة الأولى، 1412هـ/1991م. 
6- ابن قتیبة، تأویل مشکل القرآن ،شرحه ونشره السید أحمد صقر، دار التراث، القاهرة.
7- قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحقیق/ کمال مصطفى ، القاهرة ، 1963م.
 
ب) المراجع:
1- د/ بشرى موسى صالح، الصورة الشعریة فى النقد العربى الحدیث، المرکز الثقافى العربى ، بیروت ، ط1 ، 1994م .
2- د/ جابر عصفور، الصورة الفنیة فی التراث النقدى والبلاغى عند العرب، الناشر المرکز الثقافى العربى ببیروت، الطبعة الثالثة، 1992م.
3- د/ صلاح عبدالحافظ، الصنعة الفنیة فی شعر المتنبی، دراسة نقدیة، دار المعارف ، الطبعة الأولى ، 1983م.
4- د/ عبدالواحد علام، البدیع المصطلح والقیمة ، مکتبة الشباب ، 1989م.
5- د/ محمد کامل حسین، دراسات فى الشعر فى عصر الأیوبیین، مکتبة الطالب، جامعة الإسکندریة، 1957م.
جـ) الدوریات:
1-      د/ هدى فتحى عبد العاطى، الإنسانیات ، سبل تحصیل الدلالة فى تعبیرات المبالغة، العدد  الثامن والعشرون ، 2008 ، کلیة الآداب بدمنهور ، جامعة الأسکندریة.
د) الدواوین:
ابن النبیه المصرى : (کمال الدین أبى الحسن على بن محمد المتوفى سنة619هـ) ، تحقیق/ عمر محمد الأسعد، دار الفکر ، الطبعة الأولى ، کانون الثانى (ینایر) 1969م .