العَلَاقات العربية الصينية ضاربة فى جذور التاريخ، وقدَ أَوْلَتْ جمهورية الصين الشعبية المنطقة العربية اهتماماً کبيراً منذ عام 1955 وحتى الآن؛ باعتبار المنطقة امتداداُ استراتيجياً للمناطق المحيطة بها. وکانت المملکة المتوکلية اليمنية فى منتصف خمسينيات القرن العشرين منطقة الفرص الإستراتيجية التي يمکن لبکين اقتناص المبادرة فيها من المعسکر الغربي الرأسمالي. ومن هذا المنطلق، تحاول الدراسة رَصْد العلاقات اليمنية الصينية وتَتَبُّعها وتحليلها. وتتناول الدراسة "العلاقات اليمنية الصينية ( 1956 – 1962)" من خلال عدة محاور: أولاً: العلاقات الدبلوماسية والسياسية، ثانياً: العلاقات الاقتصادية، ثالثاً: العلاقات الثقافية ، رابعاً: العلاقات العسکرية، خامساً: الموقف الإقليمي والدولي وتهدف الدراسة إلى الإجابة عن عدد من التساؤلات، منها: ما الأهداف الحقيقية وراء التقارب الصيني اليمني؟ ما الأدوات والوسائل التى استخدمتها بکين لتطوير علاقاتها مع صنعاء؟ وهل کان للصين مواقف واضحة تجاه القضايا اليمنية التى ظهرت خلال فترة الدراسة؟، وهل حاولت الصين الشيوعية نَشْر الفکر الشيوعى فى ربوع اليمن، وما موقف حکومة الإمام أحمد تجاه ذلک النشاط؟، کما تهدف الدراسة إلى رَصْد وتتبع المواقف الإقليمية والدولية، تجاه تلک العلاقات، وهل تأثرت تلک العلاقات بتدهور العلاقات بين بکين والقاهرة؟. خرجت الدراسة بعدد من النتائج أهمها :
- أن منطقة الشرق الأوسط – بما فيها المنطقة العربية – لم تدخل بؤرة اهتمام جمهورية الصين الشعبية خلال (1949 - 1955م)، حيث رکزت بکين خلالها على تعزيز سلطتها الداخلية، کما رکزت فى سياستها الخارجية على منطقة جنوب شرق آسيا، فى حين کانت دول المنطقة العربية تقيم علاقات جيدة مع الصين الوطنية، وتعدها الممثل الشرعى للصين فى الأمم المتحدة.
- شهد مؤتمر باندونج خلال (18 – 24) أبريل عام 1955 نقطة تحُّول فى العلاقات بين الصين الشعبية والمنطقة العربية، حيث أعطى المؤتمر نقطة البداية للاتصال السياسي بينهما، ولذلک سعت بکين لإقامة علاقات مع دول المنطقة العربية ، وکانت القاهرة بوابتها للمرور داخل المنطقة.
- کانت بداية الاتصال بين المملکة المتوکلية اليمنية وجمهورية الصين الشعبية، بمبادرة من الأمير محمد البدر بن أحمد حميد الدين -ولي عهد اليمن- في الخامس من يونيو 1955، ومن ثم اهتمت القيادة الصينية بتلک المبادرة، وعليه قرر استکشاف إمکانية إقامة العلاقات الدبلوماسية مع اليمن.
- امتلکت اليمن والصين دوافع عديدة لتطوير علاقاتهما على جميع الأصعدة، غير أن تلک العلاقات ظلت فى حالة من الترقب والجمود طوال الفترة منذ سبتمبر عام 1956م وحتى بداية عام 1958، وربما يعود ذلک إلى بطء الدبلوماسية اليمنية، وطبيعة النظام الإمامى، غير أن السبب الرئيس في ذلک يعود إلى أن الحکومة المتوکلية لم تکن استنفدت بعدُ کُلَّ محاولاتها للتفاوض مع الغرب –بريطانيا والولايات المتحدة – بشأن الجنوب اليمني والمساعدات الاقتصادية؛ ومن ثم لم تتخذ خطوات جادة نحو تطوير علاقاتها مع الصين ودول الکتلة الشرقية إلا بعد رَفْض الدول الغربية التفاوض معها. وتمثل ذلک في فشل المفاوضات البريطانية اليمنية خلال زيارة البدر للندن( 9 – 21 ) نوفمبر 1957.
- مع بداية عام 1958 اکتسبت العلاقات الصينية اليمنية دفعة قوية، عندما قام الأمير محمد البدر بزيارة بکين خلال الفترة (31 ديسمبر 1957 – 13 يناير 1958م) حيث عقدت معاهدة يمنية صينية -عُدَّت أول معاهدة صداقة للصين الشعبية مع العالم العربى- ضمت اثنتي عشرة مادة، أکدت على المحافظة على السلم والصداقة والتعايش السلمي بين البلدين، والعمل على أن تعود المعاهدة بالفائدة على کلا البلدين، ومن خلال المعاهدة اتفق الطرفان على تبادل التمثيل الدبلوماسي، وأن يکون هناک تعاون اقتصادي وثقافي وعلمي، وأن تکون مدة المعاهدة عشر سنوات، تُجدد تلقائيّا إلا إذا رغب احد الطرفين في الإلغاء أو التعديل.
- کان للصين الشعبية مواقف عديدة تجاه قضايا السياسة الداخلية اليمنية خلال فترة الدراسة؛ منها: الصراع على ولاية العهد، وانضمام اليمن إلى الجمهورية العربية المتحدة، والاعتداءات المتکررة من قِبَل بريطانيا على الحدود اليمنية، والصراع السياسي فى اليمن، وأخيرًا محاولة نشر المذهب الشيوعي فى اليمن؛ التى رأت فيها أرضًا خصبة يمکن نَشْر الفکر الشيوعي بسهولة فيها، واستخدمت وسائل عديدة لاستقطاب الشباب اليمنى إلى الخلايا الشيوعية منها: توزيع الأموال وتوطيد علاقاتها بالقطاعات المختلفة داخل المجتمع اليمنى، وتنظم حفلات ومسابقات شبه يومية قدمت خلالها أدوات التسلية واللهو، وعَرْض الأفلام الحربية. وأخيرًا إظهار الاحترام للشعائر الدينية الإسلامية، وإقامة الاحتفالات في المناسبة الدينية الإسلامية.
- شَکّلت العلاقات الاقتصادية محورًا مهمًا من محاور العلاقات بين اليمن والصين الشعبية، فخلال زيارة الأمير البدر لبکين فى يناير 1958، تم توقيع الاتفاقية الصينية اليمنية للتعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي والتقني. والتى بمقتضاها منحت بکين صنعاء قرضًا طويل الأجل بقيمة 70 مليون فرنک سويسري، ، کما وعدت بتقديم المساعدات الفنية وإقامة عدد من المصانع ، وتنفيذا للمعاهدة عَبَّدت الصين عدداً من الطرق، مثل تعبيد طريق الحديدة -صنعاء وطريق صنعاء – صعدة، والطريق ما بين عمران وحجة، وأقامت مصنعاً للغزل والنسيج. کما قدمت مساعدات عينية من القمح، وصلت أثناء ذروة الأزمة الغذائية التى تفاقمت خلال عامي (1959 – 1960). ويلاحظ أيضًا سَعْي بکين لطرد البضائع المنافسة لها فى السوق اليمنية.
- کان الأثر الأبرز للبعثة الصينية فى المملکة المتوکلية اليمنية، داخل قطاع العمال؛ حيث بدأت حياة نحو ألفي عامل تتغير، فقد أدى النشاط الصيني بينهم، إلى جانب عدة عوامل أخرى، إلى بداية ظهور الحرکة العمالية فى اليمن المتوکلية، فتم تأسيس منظمة سرية بين عمال بناء الطرق فى المشاريع الصينية کانت نواة الحرکة النقابية فى اليمن .
- حرصت الصين الشعبية على دَعْم العلاقات الثقافية مع المملکة المتوکلية اليمنية، فتم تبادل الزيارات بين المؤسسات الدينية والثقافية؛ حيث استعانت بکين برجال الدين الإسلامي لديها لتوثيق العلاقات مع صنعاء، کما استقبلت بکين عدداً من الطلاب اليمنيين للدراسة في جامعاتها ومعاهدها فى التخصصات المختلفة.
- أما عن موقف الشعب اليمني من تطوُّر العلاقات اليمنية الصينية، فقد ظهر تقبُّل الشعب اليمني لتلک العلاقات، خاصة مع سخاء الصين الواضح فى المساعدات وحرصها على تنفيذ معظم الاتفاقات والبروتوکولات التى تعهدت بها، ومن ثم ربطت علاقات قوية بين اليمنيين والبعثة الصينية، غير أن النفوذ الصيني لم يکن موضع ترحيب من قِبَلِ معظم أفراد العائلة المالکة الذين طالبوا من الإمام بضرورة اتخاذ خطوات جدية نحو منع التغلغل الشيوعي فى البلاد، لأنه سيؤدى فى النهاية إلى سقوط الإمامة فى اليمن.
- اهتمت القوى الإقليمية والدولية الفاعلة فى الشرق الأوسط بالنشاط الصيني داخل اليمن، وکانت الدول الغربية تراقب عن کَثَب مدى التطوير الذى شهده النشاط الشيوعي -السوفييتي الصيني- هناک، وکانت بريطانيا الدولة الغربية الأولي التى أثار قلقها ذلک التطور بحکم موقعها فى عدن ومنطقة الجنوب اليمني؛ فقد رأت فيه اختراقًا شيوعيًا لمنطقة توليها اهتمامًا کبيرًا. ومن ثَمَّ وضعت العراقيل أمام النشاط الصيني فى اليمن، واستخدمت حرکة الأحرار اليمنيين للضغط علي صنعاء للحد من هذا النشاط ؛ کما حاولت استخدام المساعدات الاقتصادية، کما حاولت التنسيق مع ايطاليا والولايات المتحدة فى هذا المضمار.
-اهتمت الولايات المتحدة أيضا بمتابعة النشاط الشيوعي -خاصة الصيني- في اليمن، فعرضت واشنطن على صنعاء عدداً من المساعدات الاقتصادية، کما حاولت العمل من خلال قنوات تمثل الاتجاهات العربية مثل الجامعة العربية، والجمهورية العربية المتحدة؛ ولذلک مع نهاية عام 1958 حاولت واشنطن الاستعانة بالقاهرة للحد من النشاط الصيني فى اليمن.
- اتسم الموقف المصري تجاه النشاط الصيني في اليمن بالتقلب؛ فرغم أن القاهرة کانت البوابة التى نفذت منها الصين الشعبية إلى المملکة المتوکلية اليمنية؛ إلا أن العلاقات سرعان ما تدهورت بين القاهرة وبکين خلال النصف الأول من عام 1959، ومن ثَمَّ انعکست علاقة القاهرة ببکين بالسلب على العلاقات اليمنية الصينية، خاصة بعد حَلّ اتحاد الدول العربية فى عام 1961. ومع ذلک حرصت بکين على عدم إظهار تأثرها بالتغير الذى حدث فى موقف الإمام تجاهها، لا على المستوى الرسمي، ولا فى الصحف التى تروج لها، ولذلک ظلت علاقات الإمام معها ودية ظاهريا حتى وفاته فى 19 سبتمبر 1962 ، واستمرت کذلک في الأيام القلائل التي تولى فيها البدر الإمامة. وعند قيام الثورة اليمنية 26 سبتمبر، سرعان ما اعترفت بها بکين في السادس من أکتوبر 1962.