سلطة الذات وبناء العالم السرى : دراسة فى روايتى الرعية والجميل الأخير لصالح والى.

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

المستخلص

لا وجود للسرد من غير علاقة ما مع المسرود. فکل ذات (سارد، شخصية) تنهض بفعل السرد ـ إنما تعلن « تورطاً» ما مع العالم الذى تصوغ بخصوصه خطاباً تحکى فيه عنه، ومن خلاله، وتعمل على بنائه وتشخيصه وتقديمه. هذا الخطاب (السردى) بما يحمله من وعى، ومن تصور خاص للحقيقة والمعرفة، ولعلاقة الذات بهذا العالم وما يحويه من ذوات وأشياء؛ هذا الخطاب ـ وکذلک الوعى والحقيقة والمعرفة ـ يعد مظهراً أولياً لامتياز الذات وتفوقها، موضوعاً لسلطتها وأداة لها. فإنتاج الخطاب يأتى ضمن قدرة الذات على الفعل. إنه (أى الخطاب) تجسيد لقدرتها على طرح تصور أو رؤية عن العالم، على تسميته، وتحديده، وبنينته، ومن ثم التأثير فيه، وتحويله. وبتملک الذات السردية للخطاب/ العالم، وأحقية سرده والحديث عنه، حتى فى أقصى حالاتها توارياً وتخلياً عن مسؤوليتها السردية (بالابتعاد عن تقنيات مثل: الراوى العليم omniscient والتبئير الداخلى internl focalization، والظهور بأحوال الجهل وعدم اليقين والنسيان والتناقض..)، إذ تظل ـ فى کل الأحوال ـ فى موقع فاعل الخطاب أو متلفظه؛ بتملکها له يکون الخطاب موضوعاً وأداة لرغبة الذات فى سرد العالم (الآخر/ الذات)، وفى إخضاعه والسيطرة عليه. وهو ما يؤکد ما أشار إليه Scholes و Kellogg من أن ”.. الصوت السردى .. هو صوت السلطة the voice of authority ..”(1)؛ ومن ثم يغدو الخطاب موضع تنافس وصراع بين الذوات، من أجل الاستحواذ عليه، ومن أجل استغلاله وتوجيهه، فلم يعد ”.. فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لکنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التى نحاول الاستيلاء عليها”(2)، الأمر الذى يعنى أن للخطاب سلطته التى يستمدها من أيديولوجيا الذات المتملکة المسيطرة المستغلة، والتى من شأنها (أى الأيديولوجيا) أن ”.. تحوله.. إلى ممارسة سلطة مهيمنة..”(3)، عبر ما يتاح له دائماً من أساليب انتشار وتداول، وما يقوم به من وظائف (مراقبة، منع، إباحة..) ضمن نظام أو وضع معين. وکما يخضع الخطاب ـ فى سلطته ـ للذات وأيديولوجيتها، فإن سلطة الذات تنبع من موقعها داخل الخطاب وبالنسبة إليه، وعلاقتها بمختلف عناصره وهو ما يؤکد أن السلطة ـ فى جوهرها ـ ممارسة، استراتيجية، علاقة. وليست ملکية أو حقاً مطلقاً وثابتاً. إنها ”.. إجرائية، أو علاقة، علاقة قوى، تمارس عبر نشاط، ومن خلال مجموعة علاقات غير متساوية، ومتحرکة. إنها ../ .. يجب أن لا تؤخذ کملکية، بل کاستراتيجية، وأن مفاعيلها التسلطية لا تعزى إلى « تملک»، بل إلى استعدادات، وإلى مناورات، وإلى تکتيکات، وإلى سير عمل، وأن تکتشف فيها بالأحرى شبکة علاقات دائماً ممتدة، ودائماً ناشطة بدلاً من أن تکون امتيازاً بالإمکان الإمساک به..”(4). وفى ضوء هذا تتحدد السلطة بوصفها ممارسات أو إجراءات، داخل بنية أو نظام أو مجال محدد (المجتمع، المعرفة، الفرد)، فى ظل علاقات غير متکافئة، تخلق أوضاعاً غير مستقرة، بين من يمارس السلطة ومن يخضع لها، حيث المقاومة والنضال إزاء محاولات الإخضاع والهيمنة وفرض الإرادة. وتغدو هذه الأوضاع والعلاقات أکثر تعقيداً فى حالات تخفى السلطة، خصوصاً فى مجال المعرفة، عندما تأخذ المفاهيم، والتقاليد، والقيم (الأخلاقية مثلاً)، والتصورات الفردية.. إلخ ـ صورة سلطة « رمزية » تمارس ضغطاً أو إکراهاً خفياً، کأن تصطنع المؤسسة أو الطبقة أو الذات ”.. أدوات رمزية متعددة تتخفى وراءها، مقدمة إياها کأدوات معرفة، أو أدوات تواصل، وليس أبداً کأدوات سيادة وسلطة..”(5). وهنا يکون الخضوع لسلطة الرمزى ”.. الذى يعمل بطريقة سحرية تهيمن دون قهر کى تمارس عنفها الظريف”(6). الأمر الذى يؤکد ـ من بعض الوجوه ـ أن السلطة لا تعنى ـ دائماً ـ القهر والعنف والقمع والتسلط ـ وإن کانت تمارسه وتلجأ إليه فى کثير من الأحيان. فللسلطة دورها الإيجابى فى التحکم والانضباط والسيطرة والمراقبة، فى المحافظة على النظام وحمايته من محاولات خرقه والخروج عليه، أو القيام على تغييره وتحويله؛ وفى إضفاء الشرعية ـ ومن ثم القبول والموافقة ـ على إرادة الفعل والقوة. إن السلطة ـ فى ذلک ـ تتدخل فى تشکيل صورة الفرد، المجتمع، الواقع، الحقيقة، وتشکيل المعرفة بها جميعاً، تقر، تحافظ، تغير، تحول .. بقدر ما تقمع وتخفى وتقنع وتسلب.. إلخ. إنها تشکل وتنتج عبر الامتثال والخضوع لها، أو بتعبير «دولوز»: ”.. « تنتج الواقع قبل أن تقمع، کما تنتج الحقيقة قبل أن تجرد أو تموه» ..”(7).
فى ضوء ما سبق يکون بناء العالم السردى نتاجاً للسلطة، سلطة ذات قادرة على بنائه وتشييده عبر عدد من الاستراتيجيات السردية والخطابية، ومؤهلة لأن تصوغ خطاباً تسعى به ومن خلاله نحو السيطرة والإخضاع والإقناع ..إلخ، وبالتالى نحو إنتاج معرفة، لا حول العالم/ الآخر فحسب، بل بالأخص حول الذات (وعلاقتها بالعالم/ الآخر). هذه المعرفة أو الوعى بالذات، هذا الخطاب إنما يکون من أجل السيطرة والإخضاع، فالذات تأخذ بالنسبة لذاتها صورة سلطة تتعرف على ذاتها، على هويتها، بوصفها سلطة، أى فى ظل علاقة بسلطتها وسلطة خطابها، حيث تقع تحت سيطرة تصورها (الذاتى) عن نفسها.
ليست السلطة التى تحوزها الذات (السردية) من قبيل التعالى أو التميز أو الحق المطلق الثابت، بقدر ما هى « أهلية » أو مشروعية لإنتاج خطاب ومعرفة وحقيقة (محکومة بأيديولوجيا خطابها المسيطر)، ولإقامة تواصل (سردى) بين ذوات تمتلک هويتها (وحکايتها) الخاصة، هذه الأهلية، أو هذا الفعل، يظل دائماً موضع مساءلة ومقاومة ومعارضة من جانب عناصر التواصل التخييلية (السارد، المسرود له، الشخصيات)، بمن فيهم الذات السردية التى تقاوم تصورها الخاص عن ذاتها، وخضوعها له، أى تقاوم ـ ما أسماه « فوکو» ـ « سلطة التشکيل الذاتى»(8)، من أجل إنجاز الذات لذاتها، ووعيها بها، فى صيرورتها المستمرة وتجددها وتحولها؛ ومن جانب العناصر الغير تخييلية أيضاً، أى القارئ الذى يقاوم تحول حضوره داخل الخطاب/ العالم السردى، وتورطه معه ـ إلى توحد مع أيديولوجيا هذا الخطاب المسيطر، وتماه مع الذات السردية، لاسيما فى حالة السرد بضمير الشخص الأول، الذى قد ”.. يدفع بالقارئ إلى مواقع الذات، المطابقة لمواقع السارد..”(9) ـ على نحو ما يظهر فى المتن المدروس، وهو روايتان للأديب «صلاح والى» (1946)(10)، الأولى: «الرعية» (2002)، والثانية: «الجميل الأخير» (2004). وتسعى هذه الدراسة إلى اختبار حقيقة ما تمارسه الذات السردية ـ فى هاتين الروايتين على سبيل المثال ـ من سلطة وتوجيه، وما تتعرض له من مقاومة ومناوئة ومعارضة ونقض؛ وکيف ينبنى العالم/ الخطاب السردى من خلال علاقات السلطة، وتجادلها مع أشکال المقاومة ضدها.

الكلمات الرئيسية