موضوع : النفس عند ابن باجة قد أتى على نهايته بعد توفيق من الله سبحانه وتعالى ، ولا أظنني قد أحطت به کاملا ، ولکن اجتهدت فيه قدر طاقتي ، فسبحان من وزع الجهد على قدر الطاقة فقال (لا يکلف الله نفسا إلا وسعها)سورة البقرة :آية ٢٨ .لما علمه سبحانه من عجز البشر وقلة صبرهم ، فهو اللطيف بهم.
وقد بدا لي بعض النتائج التي توصلت إليها من خلال بحثي تتمثل فيما يلي أولا: کان اهتمام بان باجة بمشکلة النفس الإنسانية اهتما بالغا، فقد تحدث عنها فى أکثر من رسالة إضافة إلى کتابه الشهير (النفس). ثانيا: تنوع مصادر فلسفة ابن باجة بصفة عامة، وفى ا لنفس الإنسانية بصفة خاصة، وطوافه على مائدتى الفکر اليونانى والفکر الإسلامى، وانتقاؤه من کل مائدة منها ما يرى أنه يوافق الحق والصواب. ثالثا: براهين ابن باجة على وجود النفس تؤکد جمعه بين الأثر اليونانى والأثر الإسلامى، فالبرهان الطبيعى الذى عرض له ابن باجة نلمس صداه لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو، کما عرض له ابن سينا، وکذا البرهان السيکولوجى، وبرهان الاستمرار؛ فإنهما کانا معروفين ومشهورين على صعيدى الفکر الأرسطى والسينوى.
وأما البرهان الذى أضافه ابن سينا وهو برهان الطائر المعلق؛ فلم نجد له عند ابن باجة ذکراً. رابعا: مع تأثر فلاسفة المسلمين فى المشرق والمغرب بتعريف أرسطو للنفس، إلا أن فهمهم للکمال کان أعم منه عند أرسطو الذى حصره فى الصورة فقط، ومن هؤلاء الفلاسفة ابن باجة الذى رأى أن الکمال نوعان، أول وأخير، والکمال الأول بالقوة والأخير بالفعل. خامسا: حاول ابن باجة فى رأيه فى طبيعة النفس أن يجمع بين رأى أفلاطون الذى قال بجوهريتها، وبين رأى أرسطو الذى جعلها صورة للدن، فانتهى إلى أن النفس جوهر إذا نظر إليها فى ذاتها، وهى صورة إذا نظر إليها من حيث علاقتها بالبدن. وابن باجة مسبوق فى هذه النزعة التوفيقية بالفارابى وابن سينا، بل قيل إن صدى هذا التوفيق قد تردد بين جنبات مدرسة الإسکندرية قبل فلاسفة المشرق. سادسا: لم يجد ابن باجةللتوفيق بين رأى أفلاطون وأرسطو فى وحدة النفس أو تعددها، ومن ثم لم يجد بدا من ترجيح رأى أرسطو، وهو الأمر الذى ذهب إليه فلاسفة المسلمين ولا سيما الفارابى وابن سينا. سابعا: رغم عدم تردد ابن باجة فى إعلان رأيه فى قدم العالم تردد غيره من الفلاسفة، إلا أنه لم يترک لنا رأيا صريحا فى قدم النفس الإنسانية أو حدوثها، لکن قدمها عند ابن باجة أرجح من حدوثها. ثامنا: مع أنه لا خلاف فى متابعة ابن باجة لأرسطو فى حديثه عن الحواس وتقسيمها إلى ظاهرة وباطنة، وفى اشتراط الوسط فى آداء وظائفها؛ إلا أنه قال بوجود حجاب على حاسة الشم لا ينفتح إلا بالاستنشاق، فإذا انفتح وصلت الرائحة إلى الأنف، وهو الأمر الذى لم يصرح به أرسطو إلا على سبيل الزعم. تاسعا: رأى ابن باجة أن الحس المشترک کثير بالقول واحد بالنوع، فى محاولة منه للجمع بين رأى أرسطو الذى لم يعتبر الحس المشترک حاسة مستقلة بذاتها، وبين رأى ابن سينا الذى عدها حاسة سادسة قائمة بذاتها، بل إنه فى بعض الأحيان رجح رأى ابن سينا مخالفا بذلک رأى أرسطو. عاشرا: إن ابن باجة وإن خالف أرسطو فى اعتباره الحس المشترک قوة سادسة ووافق بذلک ابن سينا، فإنه خالف الکندى والفارابى فى تسميتها هذه القوة (المصورة)، کما أنه خالف ابن سينا فى مهام الحس المشترک التى کانت أخص لدى ابن سينا وأعم لدى ابن باجة، وهذه أهم المسائل التى کان لابن باجة فيها رأى بارز. حادى عشر: إن من يقارن ما کتبه أرسطو وما کتبه ابن باجة فى کل ما يتعلق بالقوة المتخيلة لا يخالجه أدنى شک فى تأثر ابن باجة بأرسو ومتابعته له وهذا ما صرح به ابن باجة نفسه فى أکثر من موضع.
ومع هذا التأثر الشديد بأرسطو إلا أن ابن باجة لم يخف تأثره بأفلاطون أيضا، کما تأثر بفلاسفة المسلمين ولا سيما الفارابى فى المدينة الفاضلة، وإن اختلف معه فى وظيفة الحس المشترک وفى وظيفة التخيل، وهذا ما جعل ابن باجة يلتقى مع ابن سينا فى جعل الوظيفة الأساسية للحس المشترک تکمن فى استعادة صورة المحسوسات التى تدرکها الحواس، مع أن لها وظائف أخرى عند ابن سينا لم يتطرق إليها ابن باجة. ثانى عشر: لم يتحدث ابن باجة عن الذاکرة ولا عن القوة النزوعية حديثا مستقلا فى کتابه النفس، فقد أدرج الذاکرة فى المخيلة، ورد النزوعية إلى الحس المشترک وإلى المخيلة کما أن حديث ابن باجة عن النفس النزوعية فى رسائله الأخرى يؤکد جمعه بين الأثر اليونانى، متمثلا فى تلخيصه لآراء أرسطو، والأثر الإسلامى ولا سيما الفارابى فى حصره قوى النفس الباطنة فى الحس المشترک والمتخيلة، وفى إرجاع الفارابى أيضا للنزوعية إلى المتخيلة ، وفى مکانة النزوعية وأهميتها وأسبقيتها المباشرة للقوة الناطقة. ثالث عشر: حديث ابن باجة عن النفس الناطقة وتقسم العقل إلى عملى ونظرى، وحديثه عن مراتب العقل النظرى ، يؤکد تأثره بالفکر اليونانى والفکر الإسلامى. فمع وضوح تأثره بأرسطو إلا أننا نلمح أثرا للمثالية الافلاطونية، وإذا کان ابن باجة قد صرح بتأثره بأرسطو فى أکثر من موضع، فقد صرح أيضا بتأثره بالفارابى، کما تأثر کثيرا بآراء ابن سينا وإن لم نقف له على أدنى تصريح بهذا التأثر. رابع عشر: من شدة تأثر ابن باجة بالفارابى فى خلود النفس الإنسانية وبقائها يخيل للمتصفح لموقف ابن باجة من خلود النفس أنه يقرأ للفارابى وليس لابن باجة، إلا أن ابن باجة زاد على الفارابى فى رأيه، فإن الاجتماع السعيد للنفوس الفاضلة الذى تخيله الفارابى بعد الموت جعله ابن باجة للأحياء الحکماء فى هذه الدنيا.