الإحسان إلى مخالف الإيمان قراءة في الکتب المقدسة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

قسم الفلسفة، کلية الآداب، جامعة السويس

المستخلص

بعد هذه القراءة في الکتب المقدسة لدى أصحابها: اليهودية والمسيحية والإسلامية، نخلص بالآتي: 

لم يقع تحت يدي نص تلمودي يستخدم لفظة "الإحسان" صراحة في حديثه عن مخالف الإيمان؛ وما وجدته من نصوص تلمودية يستخدم هذه اللفظة فيجمع في الحکم بين الإحسان وبين أشياء تشمل في أحکامها الفقهية الغريب؛ وعليه يترجح أن يتسع حث هذه النصوص على (الإحسان) ليشمل الغريب بصرف النظر عن دينه. أضف إلى ذلک نص الحاخام هليل والذي يمکن تأوله على الحث على الإحسان إلى مخالف الإيمان، واعتباره نصا تلموديا وإن لم يرد ذکره فيه لما سبق أن أوضحناه.  
لم يقع تحت يدي نص في العهد القديم يستخدم لفظة "الإحسان" صراحة في حديثه عن مخالف الإيمان، وما وجدته من نصوص في ذلک فيحتاج إلى قليل من التأويل ليدل على الحث على الإحسان إلى مخالف الإيمان.
تؤکد النصوص المقدسة في المسيحية على المفهوم النظري الصحيح للإحسان وهو أنه فضل لا عدل؛ وتغري بالإحسان إلى مخالف الإيمان، وترسم القدوة له، ولما کان العدل من الناحية العملية لا يتحقق إلا بالإحسان، أمرت به؛ ومن النصوص المسيحية ما يجعل صراحة لأهل الإيمان أولوية في الإحسان عن المخالفين، وهو ما يتعارض مع عامة نصوص الباب.
تؤکد النصوص المقدسة في الإسلام على المفهوم النظري الصحيح للإحسان وهو أنه فضل لا عدل؛ وتغري بالإحسان إلى مخالف الإيمان، وترسم القدوة له، ولما کان العدل من الناحية العملية لا يتحقق إلا بالإحسان، أمرت به.
إن مواقف النصوص المقدسة محل الدراسة من الإحسان إلى مخالف الإيمان توجزها عبارة واحدة مکررة بها بصياغات مختلفة تدل على معانى متقاربة، وهي:

-         قول الحاخام هلّيل: "ما لا تحب لنفسک لا تصنعه لغيرک، وهذا هو مطلب الشريعة بأسرها وما بقي ليس سوى شرح".
-         قول العهد القديم: "کُلُّ مَا تَکْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ غَيْرُکَ بِکَ فَإِيَّاکَ أَنْ تَفْعَلَهُ أَنْتَ بِغَيْرِکَ".
-         قول العهد الجديد: "َکُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِکُمُ افْعَلُوا هکَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ".
-         قول النبي ﷺ: "أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِکَ".
فالنصوص السابقة تلفت الانتباه إلى أن کل ما له قيمة إنسانية نبيلة لا يحب الإنسان أو يکره تغييبها من غيره من الناس، أو يريدها، أو يحبها من غيره من الناس بصرف النظر عن دينهم؛ فعليه أن يقدمها لغيره من الناس بصرف النظر عن دينهم. ولا شک أن الإحسان قيمة خلقية نبيلة ينطبق عليها هذا المعيار. ويلاحظ على العبارات السابقة أمران: الأول: تدرج العبارات في قوة الحث تنازليا من الحديث النبوي إلى العهد الجديد إلى العهد القديم إلى التلمود: فمحبة الإحسان من الآخر (أَحِبَّ لِلنَّاسِ....) أقوى من إرادته (کُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِکُمُ...) وإرادته أقوى من کراهية غيابه (کُلُّ مَا تَکْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ غَيْرُکَ بِکَ...) وکراهية غياب الإحسان أقوى من نفي محبة غيابه (ما لا تحب لنفسک...). والأمر الثاني: أن کلا من التلمود والعهد القديم والعهد الجديد بدأ نظرته إلى الذات ثم ارتد منها للآخر؛ بعکس الحديث النبوي فبدأ نظرته إلى الآخر أولا ثم ارتد منها إلى الذات، وهو ما يعکس مزيدا من العناية في الحديث النبوي بالآخر من وجهة نظرنا.

يحث التلمود صراحة على العطاء المادي لغير اليهود.
يؤکد العهد القديم على العطاء لغير اليهود، ويحذر من غيابه، ويرسم القدوة له.
يحث العهد الجديد على العطاء لمخالف الإيمان، ويغري بذلک، ويرسم القدوة له؛ بل ويجعله صفة واجبة على العاملين في التنظيم الکنسي.
يحث الإسلام على العطاء لمخالف الإيمان إلى درجة الإيثار، بل ويفرض ذلک في بعض الأحوال.
لم أجد في التلمود نصا صريحا في الدعاء لمخالف الإيمان ولکني وجدت نصا يمکن تأوله على ذلک.
لم أجد نصا في العهد القديم يحث على الدعاء لمخالف الإيمان، وإنما وجدت حثا قويا على عدم الدعاء عليه باللعن أو بالهلاک.
ينهى العهد الجديد عن الدعاء على مخالف الإيمان باللعن أو بالهلاک، والعهد الجديد غني بمظاهر الدعوة إلى الدعاء لمخالف الإيمان: من حث، إلى إغراء، إلى أمر صريح بذلک، إلى رسم للقدوة في ذلک، مبينا أن وظيفة الأنبياء والدعاة هي الهداية لا الانتقام.
تنهى النصوص الإسلامية عن الدعاء باللعن أو الهلاک على أي مخلوق، وتجيز الدعاء على الظالمين بما يکسر شوکتهم ويردهم عن طغيانهم؛ وترسم القدوة في ذلک، کما ترسم القدوة في الدعاء لغير المؤمنين بالهداية، وصلاح البال، والمغفرة – التي لا شک تتطلب قبلها هداية- مبينة أن وظيفة الأنبياء والدعاة هي الهداية لا الانتقام.

ومن کل ما سبق يتجلى لنا أن مواقف رفض الإحسان إلى مخالف الإيمان لا تنطلق من عامة النصوص المقدسة في أي من الکتب المقدسة موضع الدراسة؛ وإنما تنطلق من نظرة تتجاهل نصوصا صريحة تحث على الإحسان إلى مخالف الإيمان من أجل تعايش مثمر بنَّاء وتنتقي ما يشفع لأهوائها من نصوص وفهوم متأثرة بمواقف سياسية، وأوضاع اجتماعية، وأطروحات ثقافية وظروف تاريخية

الكلمات الرئيسية